ما بين «الزلابيا» واللقيمات، علاقة جوار ونسب، ومنذ الزمان القديم والصغار تنعطف مشاعرهم نحو هذين الأصفرين، حيث بريق السكر الممزوج بالسمن، يسيل لعاب أولئك الأرانب فيجعلهم يخيمون حول المواقد المشتعلة، بكيروسين المساءات المباركة، ولا تجد الأم بداً من نزع بعض الدوائر المبللة بقطرات الحلو وتقديمها إلى الصغار، بينما حلزونات «الزلابيا» فهي الأكثر جاذبية؛ لكونها تجلب من خارج المظلات المسقوفة بالزنك، أو شرائح الخشب، لذلك كان الصغار على موعد مهم مع الآباء، الذين يأتون وفي أيديهم تتدلى أكياس ورقية يقطر منها الزيت الهارب من سخونة المعجنات الحلوة، واليوم عندما نحاول إحداث المقارنة بين لهفة الأمس، وقنوط اليوم، نشعر بالوهن ونحن نستجدي أطفالنا بأن يأخذوا ولو مضغة من هذه الأكلات التي كانت في يوم من الأيام، من المغريات التي تجعل بعض الصغار يتسللون خلسة، ليقرصنوا على دائرة زلابية أو كرة لقيماتية، كانت بهجتهم ترتفع مناسيبها عندما يفوزون بشيء من هذا الطعام اللذيذ، أما اليوم، فالثقافة تغيرت، والذائقة اختلفت، والمزاج تعكر كثيراً، لأن المغريات كثيرة، والمثيرات مدهشة، والأصناف والأنواع، تذهب العقل، وعندما تصبح الحياة في فيض وانسكاب مغرق، تصبح الحاجة إلى الطعام ليست ضرورية، بقدر ما هي انتقائية وانتخابية، وفيها شيء من تقلب المشاعر، وأحياناً في حالنا المعاصر نرى أن دعوة الأطفال إلى الطعام وكأنك تدعوهم إلى حل واجب مدرسي، ترى الجباه مجعدة، والشفاه ممدودة، والعيون مكسورة، أما الأصغر، فهؤلاء يحولون وقت الوجبات إلى نواح وصياح، حتى أن الأمهات يشعرن أن في وقت الطعام، لا بد وأن تحشد هؤلاء المظلومات كل قواهن العاطفية، والعقلية، وينتقين من معجم الألفاظ أجمل الكلمات، حتى يتكرم السادة الصغار، ويقبلون بالدعوة، ويذعنون لرغبة أمهاتهم.
هذه مسيرة ثقافية مستمرة، وهذه معاناة تواجهها الأمهات يومياً ثلاث مرات في اليوم، والمحظوظة التي يوفقها الله بطفل شهيته لا تعرقلها حالة الإشباع النفسية، بل أمثال هؤلاء الصغار، يفرحون الأمهات ويسعدونهن، ويريحونهن من عناء الترجي والاستعطاف، والاستلطاف.
ولكن أمثال هؤلاء مثل العملة النادرة، والمشكلة في الأمر أصبح اليوم كل في حالة تلون، والألوان كلها باهتة، حتى رونق العلاقة بين شهية الصغار في الأكلات الرمضانية، أصبحت مشوهة، باهتة، بلا ملح ولا سكر، علاقة تنمو على أطراف حضارة إنسانية، خلعت معاطف الخيال الزاهي، وارتدت قمصاناً غليظة، تخنق المزاج الإنساني.
الإنسانية بحاجة إلى جرس قوي يرن في الآذان، ليذكر بأن فوضى الحواس الذي اشتعلت أوارها في هذا الزمن، ناتجة عن الفائض والفائض داء العصر، ونتيجته هذه الأخلاق المعتمة، هذه الانسحابات إلى الوراء بعيداً عن موائد الطعام، والإدمان على الجوع، والانغماس بالسكريات المصنوعة، وهي كثيرة إلى درجة الإغراق.