كنت أريد من مرافقة الحاجة «سهيلة» لي في زيارات معرض أبوظبي للكتاب، رد الصاع صاعين لها حين كانت تجبرني على مرافقتها في جولاتها التسويقية، والتي تصيبني بالإرهاق والملل، وهي فرحة نشطة، فقلت: حان لي أن أتلذذ بتعذيبها بالوقوف الطويل أمام أجنحة دور النشر، وتأمل عناوين الكتب والانتقاء البطيء، لكن انقلب السحر على الساحر، فقد كشف لها التجوال في المعرض بعض المكر الثقافي، والتحايل الفكري، والدهاء التخيلي، والنصب الهاتفي الذي كنت أمارسه عليها، حيث لاحظت أن معظم أسماء الأشخاص الذين في لائحة نقّالي، لهم كتب في المعرض، فتعجبت أن أكون بتلك الشهرة، ولي صلات بكل المشاهير والكتّاب، خاصة أن رنّة أسمائهم تكاد تكون مندثرة، وعليها غبرة، وتكاد أن تكون منقرضة منذ عصور ودهور، ثم شكّت أن يكونوا أصلاً أحياء يرزقون، خاصة أن صدى أسمائهم في الأذن يشبه وقع الحجر، أمثال «أبو حجر العسقلاني» و«النيسابوري» و«نفطويه» و«حمارويه» و«ابن بختيشوع» الذي أصرت عليه بالذات أن تسمع رنّة هاتفه، وتعرف إنْ كان معي في الـ «واتساب»، فحاولت أن أشرح لها وجهة نظري بهذا الموضوع بالذات، لكنها أدركت المنزلق اللغوي الذي يمكن أن تهوي فيه إن ظلت تسمع تبريراتي، وتعليلاتي، وما يمكن أن يدعم قولي من حجج وأدلة وبراهين وسلاطين، فقالت لي بالعامية: «أريد أعرف منو هاذيلا؟ وخلّ عنك خريط أعتقد، ومهلاً سيدتي، وأن الموقف يتطلب بعض الشفافية، وقليل من التروي، تراني أتغدى وأتعشى من هالكلام، ولا تقول لي: أُسقط في يدي، يعل أيدك القصّ»!
ساعتها تمنيت لو أن كل الخطوط تكون مشغولة أو خارج نطاق الخدمة حالياً، وتسمع تلك النغمة: «عليك معاودة الاتصال مرة أخرى».
المشكلة أن أصحاب - وهي تشك كثيراً أنهن صاحبات الأرقام - لا أعرف الآن «من هم»، وهي تصرّ على «من هن»، بعضها باعد الزمن بيني وبينه، بعضها ربما شق طريقه في دنيا جديدة، وربما أجمل، وبعضها الآخر ما زالت هناك اتصالات متباعدة ومتقطعة عند الضجر الشتوي، والقلق الليلي، ليس إلا، ولا أستطيع أن أحلف في مثل هذا الموقف، خاصة أن الرقم المميز لـ «ابن خلكان» والرقم الذهبي لـ «ابن الرشيق» لا يوحيان إلا بمشاغبات خارج المستطيل الأخضر، رغم أن هناك مبدأ كثيراً ما أسير عليه في الحياة الزوجية المقدسة، وهو: «ما كِدّ حَلَف كافود» - على رأي شوابنا - لكن هذه المرة «سهيلة» لي بالمرصاد، وواقفة على مرمى حجر من مسكي متلبساً، ويكاد المُريب أن يقول: خذوني! وما من حيلة حتى لو حلفت على رأس بكرها الذي تخاف عليه من العين، يمكنها أن تنقذني، لحظتها تمنيت أن يرسل لي أحد «الهاكرز» فيروساً يفتك بتلك الأرقام، ويجعلها دَكّاً أو قاعاً صفصفاً أو ليتني بمحاذاة الشريعة، ويفرط ذلك النقال الأملس فيها، ولا يبين منه رقم.
صرخة «سهيلة» أخرجتني من أحلامي الوردية للواقع المعاش، وتكهرب الوضع مع رنّة من هاتف «ابن عبد ربه»، آملاً أن لا يتصل فجأة «التلمساني» صاحب كتاب «نفح الطِيب من غصن الأندلس الرطيب»! لأن مشكلته كبيرة، أو «أبو سعد الخركوشي» صاحب كتاب «البشارة والنذارة في تعبير الرؤيا» والمنسوب خطأ لـ «ابن سيرين»، لأنها إنْ عرفت أنه مفسر أحلام، ستظل تسألني عنه، وكيفية التواصل معه، وأشك أنه سيفهم عليها، لأنه لا يتحدث إلا الروسية الطلقة!