كان رجلاً «هاب ريح»، كما يطلق على الرجال ذوي الفزعة، الملبين والمتواجدين عند الطلب وعند «حزتها»، أي الشدائد، لا يقام عرس إلا وتجده مساهماً فيه، ومعاوناً، يحطب مع أهل المعرس، ويسخّر سيارته للتنقلات يوم الفرح، تظل «البنديرة» ترفرف على سيارته حتى صباح السبت وانقضاء الفرح، يجول في العرضة والعيالة، ويطلق رصاص محزمه حينما كان الرصاص مسموحاً به في الأعراس، ومثلما الفرح كان الرجل متواجداً في حزن الناس، فإن توفي شخص تجده من المشيعين الدافنين، ويلزم بيت أهل المصاب، فربما يحتاجون لشيء، تجده في ختان الأولاد موجوداً، في طلوع وأسبوع الأطفال موجوداً، في الولادات موجوداً، في الحرائق والأمطار والنزاعات موجوداً، ليلة شوي عيد الأضحى موجوداً، في وداع واستقبال الحجاج موجوداً، دائماً كان موجوداً، ولم يكن يريد أن يستفقده الناس في المواقف.
كان رجلاً مربوع القامة، شديد السُمرة لوجه يرى الشمس كل يوم منذ مطلعها حتى مغربها، فطبعته بوسمها، لم أره مرة يرتدي عقالاً، كان يعتمر بعمامة وعليها خزام مزركش بالفضة، وكندورته العربية، اشتغل في الجيش «تي.او. إس»، كان يقود سيارات «البيتفرت» وأنواع «الجيبات»، لكنه كان يعشق المسافات والأسفار ونقل العَبّرية، يعرف طرق وديان عُمان، كما يعرف العين والبريمي وحماسا ومحضة ومناطق الحجر كلها، ويعرف تلك الخطوط الطويلة إلى جبل الظنة، حتى العديد، ترك الجيش، لكنه لم يتخل عن سيارته «الجيب»، التي أصبحت الآن بلوحة «خصوصي»، وأصبح يعرفها كل الناس، ويعرفون صاحبها الذي يستعينون به في سفراتهم وتنقلاتهم.
مرّة.. كان الرجل «هاب الريح» منطلقاً بسيارته، فرأى ألسنة نار ولهب ترتفع في منطقة سكنية قريبة، وكاد أن يترك ما في يديه ويسهم بأقصى سرعة في إخماد النار، ولم يتأكد فعلياً من الاشتعال، فأسرع بإخبار المطافئ عن وجود ذلك الحريق، وخوفه من أن يصل للبيوت، ذهب مسرعاً وأنجز عمله بعد أن وصف للمطافئ مكان الحريق، وعاد ليساعد فوجد سيارات المطافئ، لكنه لم يجد الحريق غير حريق إطارات وبعض المخلفات قام به أطفال مشاغبون، فتوقف وجلس يتحادث معهم، فأخبرهم عن ظنه بالحريق وخوفه على البيوت، فأبلغهم بسرعة لتفادي الخسائر في الحال والمال، لكن ظنه كان خاطئاً، يومها.. لم يغفروا له هذا الخطأ، وسجلّ ضده بلاغ بإزعاج السلطات، وتحريك سيارات الإطفاء، ووقعّوه على أوراق أن لا يعود لمثل هذا العمل، ولولا وجود ناس من أهل البلد يعرفونه، ويعرفون نخوته وفزعته، ويتذكرون أيامه وشبابه الذي أمضاه في خدمة الناس وإعانتهم ومساعدتهم، لدخل في دهاليز جديدة وتعقيدات إدارية طويلة لن تخرجه منها نخوته ولا حماسته ولا مسارعته لفعل الخير، ذلك اليوم عاد «هاب الريح» منكفئاً.. منكسر الخاطر، منقبض القلب، لأن أشياء كثيرة ماتت ذلك اليوم في صدره.