كنت منذ الطفولة صديقاً حميماً لنفسي، وأتعامل معها بود وقناعة تامة، إنها تستحق مثل الذي أستحقّ، وهذا ما فعلته في أعوام الثمانين الأولى، وحين ودعت الثانوية العامة، وحالة بؤس الطلبة الذين يستمرون في طلب المصروف من أهلهم، ودخلت الجامعة كأي رجل سيعتمد على نفسه من الآن، كافأت نفسي على النجاح في الفصل الدراسي الجامعي الأول، وبمناسبة طرق الحب بابي لأول مرة، وبشكل مختلف، وخارج براءة الأشياء، وقابل أن يترجم لعش زوجي مفترض، حب يمكن أن يكّبرك، ويجعلك مع تلك الزاهية حاملاً، أنت الهم، وهي ما يفرّج الهم، كانت فرحتان، فقلت لم لا يكافئ الإنسان نفسه، ويقدم لها هدية كأي شخص محب؟ فكانت زيارة إلى جنوب شرق آسيا، بدأتها بسنغافورة ثم تايلاند فالفليبين وماليزيا وأخيراً هونج كونج، كانت رحلة من الدهشة، واكتشاف الذات، وقراءة المكان، كنت وحيداً لا ترافقني إلا حقيبة أنيقة وكاميرا عزيزة، ففي تلك الأيام كانت سنغافورة تعد كأكبر شركة، وأكبر حلم في العالم، وتايلند لا تعرفها، ولم تعتد عليها الأقدام العربية بعد، والفليبين لم تكن تصدر لنا الشغالات والمربيات والممرضات والعاملات، وماليزيا لا نعرفها إلا كبلد مسلم، واسم عاصمتها رنان، وهونج كونج، تلك البقعة البعيدة حيث تغيب شمس الإمبراطورية البريطانية هناك، وحيث فجر صيني أحمر سينبلج، لكنها تبقى في عزلة عن النظامين تحتكم مثل كل الموانئ الكبيرة والمفتوحة لأعراف الاكتساب والاحتساب.
سافرت وحيداً أتعكز على خبرة قليلة، يتقدمني الفرح، ومفاجأة الأشياء، مع الحرص على المبيت الآمن، والاغتسال الصباحي الطفولي في بيت من بيوت الآلهة اليونانية ذات النجوم الخمس المتلألئة، والانضمام مبكراً إلى الأفواج السياحية الأوروبية، لأن رفقتهم في السفر متعة، وأمورهم غير معقدة، يشعرونك أنهم تركوا مشكلاتهم هناك من حيث جاؤوا، بإمكانك أن تتوحد بنفسك أو تشاطرهم متعة كل الأشياء، المهم أن تبعد عن العربان قدر الإمكان، لأن رفقتهم «نغص» يجرجرون مشكلاتهم معهم في حلهم وترحالهم، ويطوقون أنفسهم بعقد يربطون بها حالهم، ويريدون أن يكبلوا بها غيرهم.
مع الأفواج السياحية الأوروبية، كانت العجوز تعاملني مثل ابنها الذي لم تره منذ مدة، والشابة تعاملني كصديق طارئ، ورفيق رحلة غير ممل، والشباب يعاملونني كمصور مساعد بإمكانه أن يلتقط صوراً واضحة وحميمية لهم ولصديقاتهم، ورفيق مسائي غير ممل أيضاً لبوابات المدن الخلفية، أما المرشدات السياحيات، فكن يستلطفنني، ولا يحببن أسئلتي الصغيرة والصامتة والمزعجة، خاصة تلك التي تبتعد عن الأرقام الإحصائية التي وردت في دليل السياحة الوطني، وتتجه صوب فلسفة الأمور، واستنطاق الأمكنة، وأنسنه الأشياء، تبقى المرشدات السياحيات صديقات مفترضات إلى حين تودعهن، وتضع ما تجود به النفس في سلة سائق الباص، وهن يرمقنك بنظرة خالية من الرضا.. وغداً نكمل.