في جولة بالمعرض، وفي حضرة الكتاب، ينتابُك خوف من الغياب، وتعتريك ارتعاشة أفول هذا النجم العظيم، وتحس بالأيام التي تنقضي وكأنها تسلب من عمرك، تشعر بأن الوقت يداهمك، وأنك بين فكي كماشة، بين عجلة الساعات التي تمر من حولك، وبين لحظة تأمل كل هذه السيمفونية التي تدندِن داخلك، وتذكّرك باليوم الذي يتم الإعلان فيه بانقضاء أيام الكتاب. هذه اللحظات تبدو لي وكأنها عصافير هاربة من خشخشة قد يحدثها طير كاسر.
وجود العالم بين أحضان الكتاب لهو الطمأنينة التي تتسرب إلى الروح، وتمنحها عمراً جديداً، تمنحها بريق الشمس، تمنحها رونق الجمال في عيون المبتهجين في حضرة الكتاب. ما يشهده المرء وهو في معرض الكتاب، وهو يتأمل الوجوه المشرقة، والابتسامات الوردية، يشعره بقيمة الكلمة، وأهمية اللقاء بين الكاتب والقارئ. 
تحس بأن العالم قلب الصفحة ومال إلى الخواء، تحس بأن الكلمة التي قرأتها في كتاب ما، ذوت، واصفرّت، وهوت على التراب، وصرت أنت كمن يمشي على ظهر موجة، تقلبه يمنة ويسرة، وإذا بك فجأة تنهمر مثل محارة خاوية على شاطئ مزدحم بالفراغ. وفجأة يداهمك ذاك الفراغ الوجودي، عدم المعنى، فتسقط أنت بين الأسئلة، مثل علامات استفهام مجنونة تحرك فيك الإحساس بعدم الجدوى. 
هذه حالة من حالات غياب الكتاب، وهذه لحظة من لحظات الإحساس بانتهاء أيام الكتاب، وانطفاء أنوار المكان، والجميع قد ربط الأحزمة وغادر، وبقيت وحدك تتسرب في المكان مثل غيمة هاربة من الريح، وحدك تحاور الفراغ، وتستجدي المكان بأن يعيد لك ألفتك التي أسعدتك وأنت تراوغ الكتاب. 
هذه محنة البشرية، وهذا مأزق العقل، حين يتجسد غياب الكتاب، أو أي شيء تحبه، وبالغياب الكلي، هنا تتجلى المعضلة، هنا تنبري الحياة بسؤال الحضور والغياب، هنا تفكر أنت لماذا نحن يراودنا الشعور بالفقدان الكبير، عندما تنتهي مناسبة ما نحبها، ونعشق ترابها؟ لا شك هي مسألة مربوطة بالبقاء والفناء، فأي شيء تحبه يذهب عنك بسرعة، ويتركك تفكر في غيابه وكأنه الغياب الأبدي، وهذا لارتباط كل الأشياء التي تحبها بحياتك. نفكر دائماً بأفول الأشياء الجميلة في حياتنا، ونتمسك بأرديتها، وهذا في الحقيقة ليس إلا لأننا نتمسك بالحياة، وما الحياة إلا هذه الأشياء التي تقومها، وتشد من أزرنا كي نبقى على قيد الحياة. فالحياة جميلة بوجود هذه التقاسيم على وتر البوح الإنساني وهذه الأغنيات التي تداعب شفاه عشاق الحياة، ولا شيء أنبل من الكتاب كأغنية أزلية ارتبطت بروح الإنسان، وستظل معقودة على شفتيه، ولسانه وعقله وقلبه، لأنها هي السر في البقاء.