في يوميات معرض كتاب أبوظبي استوقفني شخص، وقدم لي نفسه بأنه شاعر، وتحدثت معه مجاملة غير مؤكد له أنني لا أعرفه، وكنت أخشى أن يسألني عن اسمه لحظتها، لأن الأسماء تغيب عني وقتها، المهم أصرّ على أن يسمعني قصيدة من شعره، فقبلت خجلاً، وخفت أن يسألني عن رأيي في شعره بعدها، استحسنتها مجاملة لكي أفلت منه، لكنه أظهر من جيبه الآخر قصيدة، ولم يمهلني وألقاها على مسمعي حتى طالت، فقلت: صبراً على هذا النشيد المدرسي! وحين فرغ من الورقة الأولى فإذا وراءها أوراق، فتملصت منه، وتركته عالقاً في قافيته!
أسرعت الخطى لكي لا يتبعني ويتعبني بقافيته، وخطرت لي فكرة القوافي الشعرية التي أتعبت العرب، وجعلتهم يدفعون ثمن مواقفهم منها، وقد أضنتهم طوال تاريخهم الطارف والتليد، تلك القافية القاتلة التي يفرحون بها حين تقال، لكنها ورطت بعضهم في معارك صغيرة، ونزاعات، وغارات، وحروب طويلة، فحرب داحس والغبراء، لا بد لها من قافية تسير معها، وليس أقلها من أنها حرب شعواء، قامت بإشعال فتيلها عجوز درداء، وأبو القوافي كان مقتله واحدة من تلك القوافي المتعبة، رغم أن بحرها من السهل الرجز، حين تعرض لشخص يدعى «ضبّة»، فَجَرّته قافية الاسم نحو حتفه، حين قال، واختار كلمة معيبة، فقط لأنها تتبع القافية، رغم أن دونها عند العرب الدم:
ما أنصف القوم ضبّة وأمه الدردحبّة
وما يشق على الكلب أن يكون ابن كلبه
وقيل: الطرطبة، وكلتاهما مثل شهاب الدين وأخيه، فترصد له فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة، وهذا، من اسمه المركب، يفترض بالمتنبي أن لا يقرب صوبه، ولا صوب أهله، لأنه فاتك بن أبي جهل وأسدي! فما كان منه إلا أن أخرس كل قوافي المتنبي، فخسرته العربية بموته المجاني والعبثي اللغوي.
وكم شاعر عندنا من أرباب الشعر النبطي، تجده يلبس حبيبته ثوباً أحمر في عز القائلة، لأن القافية تطلبت ذاك السجع المقيت! وبعضهم يداخل بين الفصول، وينزل المطر في الصيف، لأن صاحبته ذات خد رهيف، والبعض الآخر يدّن رعود، وياضي بروق ويجعل الحيا يكسو أرض المحبوب، ووين يوضع موطئ قدمه، لأن من تَوّله عليها، أضعنت وسار يتبع أثرها، ومسكن أهلها، وبعضهم يغير النظريات الفيزيائية وقوانين الميكانيكا، بسبب تلك القافية التي لم يستطع العرب التخلي عنها منذ سجع الكهان، وحين حطم من جاء بعدهم بعض مسلمات الشعر التقليدي ثارت ثائرة المحافظين، ونعتوا خصومهم بقواف لا تبقي ولا تذر، وكان أول المخالفين للوقوف على رسم دارس، والبكاء على الأطلال، ذلك الشاعر النزق أبو نواس الذي ألصقوا به من الصفات التي فيه، والتي لا يعرف عنها، حين نصح الشعراء العرب ببيت حطم الهياكل و«التابوهات» القديمة التي توارثوها منذ جاهليتهم، وساروا عليها وعلى منوالها، رغم أنهم عاشوا رخاء دمشق الفيحاء، وبغداد دار السلام، ومجرى نهرين بين الرصافة والجسر، وعرفوا جمال أرض فارس، ومتعة أرض الروم، وهم ما زالوا يستمطرون بعر الإبل، وأثر النار على كثيب الرمل، متذمرين من الوقوف على الطلل، فأطلقها أبو نواس في وجوههم:
قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس
واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس
اِترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً
وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس
وإلا ما الذي حدا بذلك الشاعر أن يلغي كل معلوماتنا ونحن صغار، ويجعل لذلك الصاروخ المسير، وفق منطق الجاذبية وقوة الدفع والتتبع الحراري، سائقاً خاصاً يقوده، فقط ليوصله إلى حبيب الروح بسرعة مذهلة، حين قال في تلك الأغنية المغالطة للمنطق:
دخيلييك سايق الصاروخ ودّيني لحبيب الروح
وغير ذلك من خريط القافية، وخرط العود غير المدوزن، الحين تلقى واحداً وتقول له: صباح الخير والنور، فيرد عليك بقافية مثلها أو أحسن منها: صباح الورد والسرور، لأن مشكلة القافية أنها تجرّ أختها، ولا أعتقد أن هناك مثلاً في اللغة العربية لا يخضع لقانون القافية، ومتطلبات السجع، أو خطبة الجمعة التي لم تغير منذ صدر الإسلام، حتى السب واللعن والشتم، حين تكون القافية فيه حاضرة يكون موجعاً، وتأثيره أقوى، ويجعل شياطين الجن تتقافز أمام عينيك، فلا ترى إلا القتل والقتال، وترك القيل والقال، وتجربة طعم الفعل والنزال!