غربت الشمس، وانزاحت صوب الأفول، ومعها مالت صفحات الكتاب باتجاه الكراتين كي يختبئ السامر المارد في أحضان الصناديق الورقية، مودعاً أصحابه، وعشاقه، بخشخشات كأنها الريح المتسربة في وجدان وريقات يابسة، وها هم المدنفون يحومون، حول أجنحة تولي مدبرة، وعيون تحملق في المدى، كأنها أباريق مفتوحة على اللاجدوى، وها هي الظلال خلف الأجنحة العملاقة تستمرئ المكوث بلا وعي كون المسافرين أعلنوا ترك لجام الخيل متسربلة بنظرات، وشدو الراحلين يخرج من الصدور مثل نفحات تتوسل الولوج في باطن الأرض، وهكذا، يعي المتأمل لمساء غير الأمسيات، مساء ترك عباءة الصباح مولياً الأدبار يبحث عن محطة أخرى، وعن جنة تدفئ جلباب الكتاب، وتحفظ الود مع المواعيد، والعهود.
وهذه العاصمة الجميلة تودع أغلى ما احتفظت به على مدار أيام، واليوم يودع، بسلاسة، والحروف بين صفحاته تدندن بصوت خافت، مثل فنان عاكف على عوده، مثل طائر يلقم صغاره حبات النهار، ويقف عابر سبيل، يقف عند الحواف، وبين الزوايا، والأركان، يتطلع إلى هذا وذاك، يبحث عن أغنية تتسرب إليه من بين شفاه، أدمنت الغناء كلما شعرت بانتهاء رحلة، وكلما باتت على شفا طريق طويل، يؤدي إلى طرائق قدداً، وها أنت أيها المتأمل، تنظر إلى الوجوه، وتغرق النظر في العيون، فتلمح بريقاً غائراً، مندمجاً مع لمعة الأضواء الخاوية، المتقهقرة نحو ليل سيكون بلا كتاب يحكي له قصة ابن سينا مع ذاك المتألم من لوعة في القلب، وقد أحصى الرجل الكهل عدد دقات قلبه، فقال لذويه إنه عاشق، فانتبه العالم لأول تحليل نفسي يخطر على بال البشر.
وقبل فرويد، وأدلر، وسواهما كان هذا الشيخ، هذا الابن سينا، يتقصى سبر الأرواح، ويلج في أعماق النفس البشرية، فيخرج بالدر النفيس. سيغادر هذا المساء ابن سينا مع رواد الكتاب وأصحاب الأجنحة العملاقة، وسيبقى المساء بلا سارد، يحكي للعالم قصة الكتاب الذي فجر مهجة العالم عندما قال: إن الإنسان ليس مركز الكون، ولا شاعراً يرفع النشيد عالياً ليغني العالم من أجل الحب، ومن أجل عالم بلا خدوش، ولا رتوش، عالم تسوده المودة، وتجمعه الروح الإنسانية.
سوف يغادر الكتاب إلى بقعة أخرى، في مكان آخر، ولكن رائحة الورق ستبقى تعطر وجدان كل من كتبوا، وكل من قرؤوا، وكل من حطوا رحالهم عند سواحل المعرفة، يتقصون أعماق الأبجدية، وينهلون من قاموس المحيط، عبق البلاغة، ونبوغ العشاق ساعة البحث عن مسرب خارج الفراغ الوجودي، وبعيداً عن انعدام المعنى.
ويبقى الكتاب أيقونة الزمان، والمكان، في غيابه حضور، وفي حضوره روعة الكلمة. ولكن مهما تحدثنا عن الغياب، يبقى للكتاب رنين سنابك الخيل في ضمير الأرض، ونبقى نحن العشاق، نتتبع خطوات القوافل أينما ذهبت، وأينما ولت وجهها، تبقى في قلوبنا مثل النبضات تهز الضلوع، كي تنجز الحياة دورتها، وكي تكمل الشمس دورانها حول العالم.