بالأمس، بعد أن ودّعت آخر رفيقاتي في «بحر الثقافة»، عقب انتهاء اليوم الختامي لفعاليات المؤسسة المشاركة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، للعام الثاني عشر، أخذت أسترجع سنوات عمري الذي أزهر في هذا البحر الكبير، وكيف أنني كبرت معه.
استرجعت البدايات في صالون «بحر الثقافة»، المكان الجميل الذي تمكّنت فيه من الغوص بعيداً في أعماق نفسي، حيث أدركت تماماً معنى أن تكون البساطة.. فخامة، والرقي.. طبيعة، والمعرفة والفكر.. سلوكاً.
من يقرأ لي جيداً، يعلم أنني اعتدت من وقت لآخر الكتابة في هذه الزاوية عن «بحر الثقافة» على مدى عشرين عاماً، لا لشيء يخصه، وإنما لأثره وتأثيره على ذاتي، التي ارتقت كثيراً، وأزهرت في حضرته، هناك عرفت غرفة قلبي السرية، حيث يكمن جبروت الكون وسكونه، هناك في قصص البحر الكثيرة، عَرفت شهرزاد خاصتي منطقها، عندما أطبقت «شما» على يدي تخبرني أن «أتحدث»، وأدركت شهرزاد قوتها عندما دفعتني «روضة» أن أتقدم بجرأة، وعشقت شهرذاد إصرارها عندما طلبت مني «شيخة» أن أستمر.. تعلمت شهرزادي منهن كيف تنجو من دمار هذا العالم، وعلمتني أن أحبه. بينهن أدركت أن البساطة ليست نقصاً بل فخامة متناهية، وأن الرقي ليس تكلفاً بل هو طبع أصيل، وأن المعرفة ليست استعراضاً للمعلومات، بل هي سلوك راقٍ يتجلى على أرض الواقع في حوار الآخرين والاستماع إليهم واحترام اختلافهم. تعلّمت معهن كيف أحلق من دون أن أبرح مكاني، وأن أُسافر بعيداً إلى نفسي. علمنني بنات «الشيخ محمد بن خالد آل نهيان» أن أكون زهرة تنشر طيباً وتورق فكراً.
هكذا.. ومع كل صفحة طُويت في «بحر الثقافة»، طَويت بداخلي صفحة، وكَتبت أخرى أكثر نضجاً وامتلاءً. لا أودع البحر بانتهاء فعالياتنا في معرض أبوظبي الدولي للكتاب، فهو مقيم في داخلي، لكنني أحتفي بمحطة جديدة من هذا العمر، الذي تقاطعت فيه المعرفة مع المحبة، والفكر مع الإحساس. وسأظل أعود إلى «غرفة قلبي» كلما احتجت للغوص من جديد، فبعض الأماكن لا نغادرها أبداً.. مهما ذهبنا بعيداً.