مسترشداً بشعراء الهايكو في اليابان، سأكتب عن الغيوم وهي تمشّط شعر السماء برفق، وعن النهر وهو يغسل أقدام الجبال، بينما يكتب الحكيم اسمه بضوء الغروب على صخرة قديمة. وإمعاناً في اكتشاف المزيد من الجمال، سأجلس قرب زهرةٍ تنام في حضن أشواك نافرة، محاولاً رصد عبيرها وهو يتسرّب وراء التلال، حيث تنام الثعالب بعينٍ نصف مفتوحة.
ما يثير في شعر الهايكو، أن الطبيعة بأشيائها ومفرداتها، تصير هي اللغة الأصل، بينما يتخفى الشعر في الصور من غير أن يستجدي التعبير عن أي معنى مباشر. ولولا الالتزام بعدد الأبيات والكلمات في شعر الهايكو، لقلت إن جميع الشعراء يقتربون، بشكلٍ ما، من التعبير بهذه الصيغة الجمالية.
هناك نصوص تُكتب في المدينة، في أنفاق المترو، وتصطاد لمحات خاطفة من الحياة، كأن يصف شاعر شابّ الموسيقى وكأنها تمطر على سقف الغرفة، بينما دقات قلبه هي الإيقاع الذي يرتفع ويهبط في تنفس رئتيه. وأيضاً، يمكن لشاعرة أن تصف نقطة الحبر التي سقطت سهواً على الورقة بأنها الزنبقة السوداء التي نبتت فوق بحيرة الثلج.
يذهب كثيرون إلى الشعر بحثاً عن المعنى الواضح والمباشر، ويقع آخرون في الحيرة حين لا يرون في النص الشعري سوى بعض الصور الجمالية، والحقيقة أن هذا هو الغاية المحضة للتعبير الشعري. فعندما يصف شاعر ضرير الأغصان التي تلوّح للشمس بأنها رقصة الريح، فهذا يكفي. لكن الأكثرية تريد من الشعر دوراً أكبر، وبعضهم يقحمونه ليكون خطاباً تقريرياً يصف ويحلل ويشير ويتخذ موقفاً ضد هذا أو مع ذاك.
الكرسي الخشبي في الحديقة فارغ اليوم، لكن ريشة العصفور سقطت واستقرت عليه. أليست هذه صورة كافية لبناء تصوّرٍ حسّي وجمالي لمعنى الحب؟ ألم نرَ في هذه اللمحة التعبيرية أن العاشقين غائبان اليوم عن موعدهما؟ هكذا يمكن للشعر أن يستدعي ما هو غير مرئي في المشهد، ويضيف إلى اللغة حياةً أخرى متخيلة. والقارئ الذي يترك لنفسه حرية التمتع بالقصيدة من غير اشتراط لوظيفة ما، هو الذي يستلهم الجمال المخبوء في الكلمات، وهو الذي يتشرب المعنى الذي لا يُدرك إلا بالحسّ.
في كل لحظة صمت، ترتفع مئذنة من الأعماق، ويصير صوتها خيطاً من نور. وفي كل ضجيج، هناك من يختار أن يُصغي إلى ذاته، مفضلاً أن يكتشف ذلك السر الذي يجعله يشعر ويحسّ بروعة الكون من حوله.