أنا مسافر بسيط خفيف اعتمد على الأصدقاء في التخطيط ومن ثم يعتمدون عليّ في التجوال، لا أفكر في المطعم أفكر في الطعام، أهم شيء لدي في السفر أن يكون الفندق خمس نجوم وأكثر رفاهية بعد ذلك كله تفاصيل، ولأنني مسافر تقليدي، فأنا لا أعتمد على الوسائط في الإعلام الرقمي، كثيراً ما اتبع حدسي في السفر، أجد رحلة مناسبة لي في التوقيت والسعر والبرنامج الجيد فأخذها، لا أحب التخطيط قبل ثلاثة أشهر من السفر، وأحجز مطعماً بعينه قبل شهرين، وآخذ تذكرة سفر قبل أربعة أشهر، أنا أمقت ذلك، أحب أن أسافر خفيفاً، وحين أصل إلى المدينة أختار لي برنامجاً يومياً للرحلات الجماعية والتي تناسبني، الكثير يسافر ليتعب، أنا أكره ذلك، أحب أن أسيطر على وقتي وأستمتع بسفري، أعشق السفر ببطء، وبذاك الكسل اللذيذ!
ذاك النوع من السفر سيجبرك على التوقف عند تفاصيل الأشياء وصغار الأمور، مثل مقعد خشبي وحيد في حديقة لا صديق له إلا ثلج الشتاء أو التعلق بساعات المدن التي تتبعتها من خلال رحلاتي الكثيرة والمتكررة في كل مدن العالم، وأحياناً الرحلات المخصصة لرؤية ساعة مدينة بعينها، لتطلق لرأسك العنان في البحث وقراءات واستنطاق المكان عبر حس أدبي وصحفي استقصائي، مستدرجاً قصصاً عنها أو قصصاً حدثت معك بسببها كتلك التي حدثت معي في مدينة برلين، فقد كنت مشاركاً في مهرجان برلين السينمائي، واستغليت الفرصة وقررت أن أصور كل ساعات هذه المدينة العريقة، وصدفة التقيت بسائق سيارة فرنسي ويعمل في برلين، وراقت لي الفكرة أن أجد فرنسياً في هذه المدينة الألمانية ويعمل في مهنة تكاد تكون شاقة عليه نشاطاً ولغة وطقساً اجتماعياً لا يتناسب ولا يلتقي فيه الجرماني بالفرنسي، فضحكت لأنه كان خفيف الظل ولا يبدو أنه ألماني لا شكلاً ولا بحس الدعابة، فقلت له سأدفع لك أجرة أسبوع بأكمله على شرط أن تكون دليلاً لي لساعات برلين، فقبل وقبلت أن أدفع له الأجرة وفوقها ما يحبه الفرنسيون كمعونة للشرب أو كما يقولون «بور بوار»، وأعفيته من التحدث بالألمانية التي لا نجيدها كلانا، ولا بالإنجليزيّة التي يبدو أنه يكرهها بأثر تاريخي طويل، وقلت له هذه ميزة أن تقودني لساعات برلين ومع زبون يجيد لغتك الأم، لقد قضيت معه ساعات طوالاً، أسبوع وهو يوصلني لكل ساعات تلك المدينة، وحين توادعنا، ظل يراسلني بين الحين والآخر، خاصة في رحلاته، قائلاً: لقد ورطتني في هواية ما كنت أريدها ولا كانت تخطر ببالي، الآن أنا أمقتك لأنك جعلتني أسيراً لتلك الساعات في كل المدن التي أزورها، وشكلك لا يفارقني بكاميرتك وتعليقاتك نحو كل ساعة، لقد صار لدي هذا الشغف اللامنتهي.. وربما لا أقدر على التخلص منه قريباً.. وغداً نكمل.