بلغة كأنها فراشات تلاحق رحيق الزهر، وذاكرة كأنها أحلام تتأمل مشهد العالم وهو يغسل معطفه بماء الورد، كتب الدكتور حجر أحمد حجر، عن قريته التي غادرها، ولم تغادره في كتاب بعنوان «معيريض مهد طفولتي»، مفصلاً ما جاش في عمر الطفل الذي كبر، وكبرت في ذاكرته قرية كانت بالأمس مهداً واليوم أصبحت عهداً ووعداً، حيث سر الدكتور بوفاء النبلاء، وصدق النجباء، وحلم العشاق الذين بينهم والمكان علاقة الغيمة بالمطر، وصورة النجمة في مرآة السماء الصافية، ووشوشة الموجة في ضمير من اغتسلوا بملح البحر، والذين طاردوا الزعانف وقت ريعانهم، ويوم كانوا في المشهد الأخلاقي رموشاً تداعب أحلام الصبا، ويغني الطير رافعاً النشيد الكوني عالياً.
الدكتور حجر، وهو يكتب عن معيريض، ينبري طفل في قلب رجل، ورجل يتهجّى التفاصيل في هذه القرية التي لم تزل تمد قدميها إلى البحر، وظهرها إلى الجبل، وما بين البحر والجبل، تكمن سيرة عالم مد للمدى بصراً، وكحّل العينين بإثمد الأحلام الزاهية. وإذا كان القطار الزمني قد خب، وشب، وهب، ومضى في التحولات طرائق قدداً، فإن الذاكرة تبقى كتاباً مفتوحاً، في الوجود، ويبقى المكان هو السبر وهو الحبر، وهو الخبر منسوجاً في الذاكرة سجادة من حرير، ويبقى العشاق هم الذين يضعون الثمرات على أغصان الشجرة العملاقة، وهم الذين يسبكون القصيدة العصماء قلائد من وعي بأهمية أن يكون الإنسان شاهد عصره، وأن تكون الكلمات حبات المسبحة التي تسترسل بين الأصابع في ترديد كلام الله، تسبيحاً، وتقديساً، وترتيلاً، وتبجيلاً.
وهذا هو الدكتور حجر أحمد حجر، يتسرب بين الكلمات كقطرات المطر، ويفشي أسرار الحب، وعشقه لقرية أصبحت اليوم أيقونة في الذاكرة، أصبحت، ملحمة شعرية، ونثرية، وصارت في الزمان تاريخ شعب، تسكن في الوعي، كما هي الفلسفة تعمل دوماً على صياغة الوعي، وترتيب أثاثه وتنظيم تفاصيله بصورة مثلى تقبع في ذاكرة الأجيال. ومهما بلغت التغيرات، والوثبات، والتطورات في عالم يسابق الزمن بسرعة البرق، تبقى الأمكنة مثل مخطوطة أزلية تحفظ الود، والسد، وتحمي وجدان الناس من عبث القفزات الفانتازية المريعة. تبقى الأمكنة مكاناً يشرع نوافذ الحلم على المدى، والأفق بوصلته، ونبقى نحن الذين عبرنا، من شطآن الزمن، نتقصّى التفاصيل، ونغسل عيوننا بدمعة التوهج، ولهوجة التفكر، فيما حدث، ويحدث وما قد تطرقه ذاكرة الأجيال.
نبقى نحن العشاق، نلاحق الكلمات ذات المعنى، بعيون ملؤها شعشعة المشاهد، التي بزغت، وربما توارت، خلف ركام الأيام، ولكنها لن تنقشع عن الذاكرة لأنها في الأصل جزء من القلب، وشيء عظيم من الروح، وها أنا أقرأ كتاب «معيريض مهد طفولتي» للدكتور حجر، وأشعر بأنني ما زلت أمشي على الرمل حافياً، وأغسل قدمي بعرق القطط، التي نامت عند صخرة في زاوية من زقاق قديم، تداعت جدرانه، واستقامت ذاكرة من أحبوا من كن خلف تلك الجدران، ومن همسن بأن الحياة ليست ومضة، بل هي غمضة تتبعها لمحة، ثم تليها رسوم وشواهد، ونبضات تهدر بين الضلوع. ومعها تصفق النجوم محيية تلك الزلزلة، في عمق تفاصيل المرحلة، وإن كان العمر طوى عباءتها، أو على وشك من ذلك، تبقى القلوب حراس الزمن، محافظ تضم، وتلم، وتشم رائحة معيريض، بوجد كائنات خلقت من أجل أن تحب، وتخلد اسم معيريض، ومن هؤلاء الدكتور حجر أحمد حجر، أمنياتي له بطول العمر، والعافية لنقرأ له المزيد مما ينبض به قلبه الكبير، وحبه الأكبر.