أبدع كي لا تضجر، كيف تسير أمور الحياة معك يا أمي، هل أنت سعيدة مرتاحة، أم أنك تشعرين بالكآبة والضجر؟ إذا كنتِ ضجرة فلا خوف عليك؛ لأن الضجر هو السر الذي يوقظك للإبداع! لأنك حين تكونين ضجرة يعني أن الأشياء من حولك لا تشبع رغباتك الإنسانية العميقة، وإن الرتابة وتكرار المشهد الواحد لا يرضيان رغبتك في التغيير. وعندما تكونين ضجرة، فإنك لا تستطيعين أن تجلسي هادئة البال؛ لهذا ينهض الإنسان الضجر ليغير عالمه. وتذكري أن الناس عادة يشتكون من أوقات الفراغ كمشكلة تواجه الطالب حين الإجازات الصيفية، والموظف حين إجازته السنوية، أو حين التقاعد. في كل الأحوال يصبح الفراغ مشكلة تحتاج إلى حل. فما هو الفراغ، وكيف نملؤه؟
لو تأملنا مسمى الفراغ هذا لوجدنا أنه زمن محصور بين وظيفتين. وهذا الزمن محسوب من عمر الإنسان، وجزء من وجوده. وهو إلى ذلك مساحة زمنية -محدودة أو ممتدة- يتحرك فيها الإحساس بالضجر ويملؤه. وهذا الإحساس بالضجر ناتج نشاط الدماغ الذي يلح على الإنسان بالنهوض، لتجسيد هذا النشاط الذي لا يهمد إلا لعلّة مرضية، ولا يتوقف إلا بالموت.
تستنفذ الوظيفة الرسمية جزءاً من هذا النشاط، يقل أو يزيد حسب نوع الوظيفة ورتابتها أو حيويتها. حين نتوقف عن الأداء الوظيفي، تظل رحى النشاط الحيوي للدماغ دائرة يتآكل فيه الإحساس بالامتلاء والطمأنينة والارتياح. ويحل محله القلق وعدم الاستقرار والملل والضجر وضيق النفس.
إن إبداع الفنون بكل إشكالها وتعدد أجناسها عبر عصور الحضارات البشرية، نتج عن هذا النشاط الحيوي للدماغ، الذي دفع بالقلة دوماً لابتكار أنماط أخرى تجسد هذا النشاط، الذي اصطلح عليه الناس باسم الهواية، بصفتها اختياراً فردياً، يختلف عن الوظيفة ذات الصفة الجبرية.
والهواية معجمياً من الهوى، وتعني إرادة النفس وميلانها إلى ما تستلذ به. وحين تستلذ النفس وتجسد إرادتها، ينتفي الإحساس بالقلق وضيق النفس والملل والضجر لأن النفس تحقق ذاتها فيما تهوى وتحب. إذن بالهواية وممارستها يمتلئ فراغ الزمن، وينتفي الإحساس بالملل والضجر. لكن ربما يقول البعض إن الهواية إمكانية البعض وليس الكل. لكن الحقيقة أن الهواية إمكانية كل إنسان. وليست الهواية سوى ممارسة للإرادة الحرة وما تستلذه النفس، والتعبير عن التوق الخفي لتغيير الحال الذي نكون فيه إلى حال مغاير جديد نستكشفه. وهي إلى ذلك كله تلبية لنداء العقل الفعال، وإشباع حاجة النفس إلى الطمأنينة والتألق والفرح!