في مشهدين متباعدين ظاهرياً، لكنهما مترابطان على نحوٍ مثير للتأمل، في الأول تظهر امرأة في مقطع فيديو منتشر تُناجي شجرة، تدعوها لتقترب وتطلب ذلك بتذلل وإصرار، فتقترب الشجرة فعلاً، وتلمس بأوراقها وجنتها فتنتشي المرأة، ويتكرر الموضوع نفسه لدى أخريات أعجبتهن التجربة أو أردن التأكد منها، وفي فيديو آخر تهمس فتاة لتطبيق ذكاء اصطناعي بأسرارها في هاتفها، تستفسر منه عن الوحدة، وربما عن معنى حياتها.. بل وتطلب منه أن يقول لها: «أحبك».. ! قد لا يرى البعض أي علاقة بين هاتين اللقطتين، ولكن أليس في هذا السلوك الإنساني تجاه الكائنات الصامتة، سواء كانت طبيعية أو مصنعة وجهاً من الغرابة؟.
«الحب عن بعد.. أنماط حياتية في عصر العولمة»، كتاب قرأته منذ ما يقارب عشرة أعوام، تطرّق فيه الكاتب وعالم الاجتماع «أولريش بك»، فيه - ما أثار فضولي بشدة في ذلك الزمن وقد كتبت فيه- إلى علاقات الحب التي لعب تطبيق «سكايب» دوراً أساسياً فيها، وقتها لم أكن أملك وعي طرح الأسئلة، وأشغلت طاقتي بجمع أكبر قدر من تلك القصص التي وجدتها مثيرة وتراجيدية من العلاقات، التي نمت وكبرت بين امرأة ورجل طبيعيين تفصلهما حدود وقارات.. وشاشة. كنت في ذلك الزمن في حالة ذهول تام من طريقة نمو علاقة رغم هذا البُعد المكاني!
اليوم وبعد مرور هذا الوقت ومع كل ما ألحظه وأراقبه، امتلأت بعدد لا حصر له من الأسئلة التي تؤكد أننا نعيش وقتاً غير مسبوق من حالة ذهول يملاؤها التوهان والتشتت، وقتاً لن نملك فيه الأسئلة التي -أعتقد جزماً- أنه لم يحدث يوماً أن طرحها الإنسان على نفسه في زمن سابق.. أسئلة من قبيل: هل نواجه معضلة في التخاطب الطبيعي؟، لماذا نحن مهووسون بالصمت الرقمي؟، هل خذلتنا العلاقات الطبيعية؟، لماذا استأنسنا هذه الجمادات؟، هل سنبقى كائنات اجتماعية بالفطرة؟، هل ما يصيبنا تطور طبيعي أم أن في الأمر ما يدعو للقلق؟، هل تغيرت فعلاً نظرتنا للتقنية بأنها وسيلة وأصبحنا نتعامل معها كذات أخرى نتشاركها الحياة؟، وإلى أين سيذهب بنا هذا الطريق يا تُرى؟.
أسئلة استحضرتها، ورغم أنها وسيلتي الحالية لاستيعاب ما يجري، إلا أنها ذهبت بي إلى مناطق أكثر غموضاً والتباساً، فهل ستبقى علاقتنا الإنسانية واردة بعد استئناس الجمادات؟، كيف هو شكل الوعي الجديد المتحقق من هذه العلاقات؟، هل ما رأيناه في تلك المقاطع مجرد لحظات عابرة من الاندهاش، أم أن ما استشعرته المرأة من دفء الشجرة على خدها، وتلك التي انتظرت بلهفة عبارة «أحبك»، هو تحول حقيقي في شكل التواصل والعاطفة يشهد على لحظة فاصلة في كل ما نعرفه وندركه جميعاً من مفاهيم عن التواصل والأنس والصداقة والحب.