كان نحيفاً، خفيفاً، يشبه ريشة طائر .. يتواجد في أسواق العين القديمة، وعند أبواب المساجد يوم الجمع، يغشى تجمع الرجال، يضحك معهم بعفوية طفل، يداعبونه، يتمازحون معه، وحين يثقلون عليه بألفاظهم وأسئلتهم عن قصة «الباتاني»، يضحك بخجل، مدارياً اصفرار الأسنان وسوء انتظامها، يتحسس منابت شعر وجهه الأمرد، وحين لا تجد يده الخشنة لذة مشاغبة رؤوس الشعر، ينسحب بخطوتين إلى الوراء، وينظر في عيون الرجال باحثاً عن أشياء تنقصه، تتحرك في دواخله كل هذه الأشياء الخديج، يهتبل، يتنطط ثم يمد لهم يده طالباً درهماً ورقياً كان متداولاً في ذلك الوقت.. يجاهد أن يتغلب على اللسان الثقيل، واللعاب الذي يستقر على صدر كندورته، يضحك ببلاهة وينطق بتأتأة روبية أُم نخلة.. روو.. روبية أُووم نخلة.
يقبل عليها بفرح، وتضحك عيونه حين تلوح بها يد أحدهم، كان لا يقبل أي عملة ولو كانت مصبوبة ذهباً، روبية أُم نخلة هي المطلب، والمطلب الوحيد، وحين تستقر في يده، يقبلها ثم تعتصرها أصابعه المتعرقة، وحين يحس أنها أصبحت كخبزة اللبن يدسها بحياء في جيبه الأيمن، وتدور عيناه في وجوه الرجال معتذراً كرجل يليق به الاعتذار.. ينسحب بخطوات هامسة إلى الخلف، ويقرر ترك المكان، فتغيبه غابة أشجار النخيل، أو السكيك الطينية، يغيب فجأة ويظهر فجأة، وتجده في نفس الأمكنة التي اعتادتها قدماه يستكف روبية أُم نخلة .. رورو.. روبية أووم نخلة.
مضى عليه الآن أكثر من عشرين سنة، منذ رأيته أول مرة عند مسجد حمد المطوع القابع وسط نخيل العين، كان يغيب في تلك الغابة الخضراء ولا يخرج إلا إذا صرف الروبية أُم نخلة، كان لا يزال يتراءى لي في ثوبه القديم المملح وعمامته الصغيرة المصفّرة ووجه النحيل الأكلح، تماماً مثلما يحضر بين الحين والآخر، يقرع أبواب الذاكرة، تنسيني إياه الأسفار والأحداث، لكنه يأتي، يطرقها أحياناً وبعنف كأبطال الأساطير.
غير أنه يغيب مختبئاً وراء أسئلتي هل تزوج؟ أين يسكن؟ كيف تسير حياته؟ أين هو من كل هذا التغيير؟ وحين أذهب إلى العين أحاول أن أتصيده، لكنه لا يأتي حتى امتدت بنا السنون، حينها أيقنت أن جبال الحجر قد تحجر الشمس، فكيف بعبيد هذا الذي يشبه ريشة طائر.
وفي يوم كنت خارجاً من البنك الذي استقام على أنقاض بيوت حارة الشل، فإذا هو قدامي بارزاً كالشبح أو كالصخرة الجبلية التي لا يضرها الريح والمطر، لم يتغير، كما كان هو روبية أُم نخلة، والوجه النحيل الأكلح تناثرت شعيرات قليلة عليه، والرّوان مازال يسيل، يقبّع الثوب الأملح القصير والعيون تعتذر، تجبر الجسد النحيف على الثبات وعن الكف عن الرقص الطفولي، كان الحديث إشارة.. عن سر الاختفاء وعن الزمن الجديد، وهل تزوج تلك المرأة؟ التي كان يشير عنها بإصبعه إلى حلقة ذهبية في طرف أنفها.. ضحك كما كان يفعل، واندفعت الطفولة بكل براءتها، ثم ترقرقت دمعة في عينه، تراجع إلى الخلف ماداً يده العرقانة بارتجافة وهمس بتأتأته التي لم تكبر روبية أُم نخلة.. روو.. روبية أُووم نخلة.
قبضتني غصة في الحلق، وأخرجت له من محفظتي أوراقاً مالية بألوان شتى وبسطتها له ليأخذها، لكنه ضحك مدارياً بكفه اصفرار الأسنان وسوء انتظامها.. همهم بكلمات لم تنتظم حروفها، استل من يدي ورقة عشرة دراهم خضراء شبيهة بالروبية أم نخلة.. تنطط بفرح واستدار يفرك الورقة النقدية بيديه وضمها إلى صدره واكتفى ملوحاً، وغاب وسط الشارع والناس والسيارات وأسئلتي التي تلاحقه.