لا يوجد تاريخ من غير حروب، لأن الإنسان إن لم يجد عدواً خارجياً يحاربه، فسوف يحارب نفسه، ويطحنها بالعصاب القهري، ولذلك نكتفي بالقول كيف نختزل الحروب؟، وهذا أمر جائز، وممكن، ويستطيع الإنسان أن يتآخى مع أخيه الإنسان بقدر الإنسان، وقد يتمكن في زمن ما من أن ينتصر على الشيطان الداخلي، الكامن في هذا العقل الجامح، الطامح إلى أن يكون هو الأحسن، وهو الأقوى، وهو القابض على جمرة الحياة بحذافيرها، وأظافرها، ويستطيع الإنسان أن يخرج من مأزق الحروب، أو لنقل بعضها، بواسطة تلك الروح العالية، وذلك العقل المتطور نسلاً من خصائص الماء الصافي.
عندما يتخلص الإنسان من ركام الكراهية التاريخية، أو بعضها، يمكنه أن يتحدى نفسه، وأن يحقن ذلك الشيطان الداخلي بحقنة التهدئة، ويستمر في حقنه حتى يتبين له في نهاية الأمر أنه بإمكانه أن يعيش بلا كراهية، وأن هذه البؤرة الخطرة في النفس، تزول عندما ترتفع نسبة الوعي بأهمية أن نكون واحداً وليس اثنين، ففي اتحاد الذوات، تذوب تلك البذرة العفنة، وتنتهي إلى زوال، ويصبح الإنسان المتعدد واحداً، ولا يمكنه أن يؤذي نفسه، طالما صار التعدد واحداً، وأصبح الإنسان يعيش في حالة انسجام مع نفسه ومع الآخر الذي صار هو، وصار هو الآخر. والحكمة الشرقية تقول (إن تفهم الشيء تدركه، وإن تدركه تحبه، وإن تحبه تكن أنت هو، وهو أنت، تكونان في الوجود واحداً).
فنحن مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن ندرك أننا في هذا الوجود واحد، فقط تلك الأنا التي حددت مساراً مناقضاً ومغايراً، وعنيفاً في الوقت ذاته، الأمر الذي أرغم الإنسان على الضياع في غابة الأنا، والبحث عن وحدانيته، منعزلاً عن الآخر بحجة الاختلاف، بينما الاختلاف لا يعني التنافر، وإنما الاتحاد، الاختلاف من أسس جماليات الكون إذا فهمنا معناه، وسرنا في دروبه بوعي، وإدراك أننا في الأصل واحد، وما فرقنا غير هذا الشيطان الداخلي (الأنا)، وجعلنا نبحث عن ذواتنا في الحفر السوداء، ذلك الاسوداد الذي أعمى البصر والبصيرة، وصرنا في التيه الوجودي كائنات ضالة، نبحث عن الأعداء إن لم يوجدوا، وتصنعهم، ونحملهم في صدورنا، وعلى أكتافنا، لأننا في حالة سيطرة الأنا نكون عاجزين عن العيش من دون عدو، نصب عليه جام غضبها، ونحمله سبب عجزنا، وتخلفنا وفقرنا، وضعفنا، وهواننا. النتيجة أن الإنسانية بحاجة إلى الوعي، ومن ثمة نصبح في دائرة الإدراك لكل ما يحيط من حولنا، وبالتالي نستطيع التمييز بين الأسود، والأبيض، وهذا يكفي لأن نصل إلى النتيجة المرتجاة، وهي نبذ الكراهية، ولو جزئياً، حتى نستطيع العيش من دون حروب مدمرة، وصراعات عبثية، وعدمية.
على مر العصور برزت حضارات، واختفت أخرى، والعالم يشهد هذا التغير، وهذا البروز والاختفاء، لكنه لا يدرك لماذا تنطفئ جذوة الحضارات، ومتى، ولا ينظر إلى هذا التغير بعين الاهتمام، لأنه أصبح يتابع هذا التقلب مثلما يتابع تغير الليل والنهار، وصار القلب البشري مثل سبورة قديمة، ترى بعض الخطوط القديمة على لونها الرمادي، ترسخ قول (كانت هنا حضارة)، والإنسانية تمر عليها مرور الكرام ومن دون سؤال، أو علامة استفهام مجدية، لا العقل المأزوم بالأنا، ما عاد يكترث بمثل هذه الأسئلة، كونه منشغلاً، بذات بشرية منعزلة، تشقق قماشتها رماح الكراهية. ولكن وإن بلغنا مبلغ الصعوبة، يبقى الأمل في الذين يزرعون الحب، حتى في الأرض اليباب، ويكفي الأمل كي نمسك بتلافيف السعادة، ونبحث عنها، ونسأل عن أخبارها في الواقع البشري. هذا يكفي.