صباحاً كانت الشمس المشرقة تكنس بعض تفاصيل على محياك الطفولي، وكنت تتهجى مفردات التاريخ مثل طفلة تائهة بين الحروف، تحاول أن تمسك بالكلمات كشجرة سدر تغدق طيورها بالحنين، وتسرد لها قصة الخلق الأول، وبعض ما جاء في سبر الأولين.
تأملتك، وقرأت على محياك تضاريس قارة نائية، توارت خلف قرون التحولات في زمن يلقي بالقديم بسرعة فائقة جل تفاصيل قديمة، ويغرق في لجج داكنة، تفور أمواجها بحماقة الزعانف المتهورة.
الله، يا أنت المخلدة في دفاتر العمر، المستتبة رغم فوات مواسم الوعي والسمع والبصر، وإلا عيناك لا تزالان تلمعان ببريق طفولة غابرة، تنهض كلما شب في فؤادي حنين طفولة، تدثرت برمال الزمان، وانكفأت تحت ركام ذاكرة اليوم تتوكأ على عصا أحلام طفولة، وتمضي حقباً في صحراء العمر، وما اشرأبّ به العتق كلما صرخت الروح ظمآنة من شح، ومن بوح تخنقه العبرات المأزومة بجفاف السواحل والشعاب، والهضاب، وعروق كف معينها، فبدت كحبال مشدودة على عنق، فأتذكر أيتها الطفلة الشائخة، أتذكر ثوبك الأخضر اللامع، في يوم عيدك وأنت تحمسين قهوة الصباح وتنشدين أغنيات المراجيح، وبعض ما تركته الطفولة من بقايا فرح في القلب المثخن حنيناً، والروح التي أمسكت بأجنحة الزمان وطارت إلى صور، ومشاهد لم تفارق مخيلتك واليوم، تذبلين حبيبتي، وتطوين جسداً، كأنه سجادة صلاة قديمة، وعيناك تغلقان نافذة البصر، ولم يعد بوسع الرأس المكلل بمغيب الذاكرة، أن يسرد لذاك الطفل، ما قد يخطر على البال من مشاعر تتزحلق من سفوح الأيام، لتهبط عند حضيض اللحظة القلقة، تلك اللحظة التي جاءت ومعها، محفظة السرد القديم، ولكن.. لكنك اليوم وفي هذا الصباح بالذات، وليت مدبرة، تمسكين بخيوط الأبدية، وتنسجين قماشة النوم ولا أعلم سيدتي إن كنت في الغياب، أم الحضور، في لحظة تألقت الفكرة في رأسي، ورأيتني اقترب من محياك، الطفولي، واستمع إلى أنفاسك المتدفقة مثل همس النسيم، سمعتك تتكلمين ولكن.. كان الكلام مجرد خرخرة جدول يمر عبر محيط تساؤلاتي، وأقول ماذا حدث لهذه الأسطورة، وكيف يهمل التاريخ ما أبدعته مخيلة امرأة كانت في الزمان أيقونة، وكانت ترتل أحاديثها بعناية كناسكة في محراب التبتل، الله يا مفردة في الفؤاد حطمت بين الضلوع قلباً، كان في البدء يستشعر الغياب، واليوم أصبح في الغياب حرفاً ضائعاً في جملة نكرة، يسأل الله والنبيين، والملائكة، والنساك وقارئي الفنجان، ومقتفي آثر الكلمات الغامضة كيف يمكن لفكرة أوضح من النجوم في السماء الصافية، أن تضيع في غيهب ولا تسأل الشمس عن كواكبها الهاربة من فلك الدوران.
خففي الوطء يا غالية، واسمعي خفقات قلب، ما عرف غير الخفقات ينفثها استجابة لوحي يوحى من بين ضلوعك، المتهاوية كجريد عريش عصفت به الريح.