يتخيل بعضهم أن الأيديولوجيا كائن خرافي يتسلل إلى العمل الأدبي بصيغة سحرية مرعبة فيسرق من العمل محفظته الإبداعية، ويتركه في الحياة مثل شخص نامت على صدره صخرة الفقدان، فاضطر أن يفر من قسورة الخيال، ويختبئ في جيب ترابي هش ينهال على فكره مثلما تنهال الرمال على جثة هامدة.
من مفارقات القدر أننا أصبحنا نخشى الأيديولوجيا، مثلما يخاف الطفل من الجن والشياطين.
نحن اليوم أمام معادلة رهيبة، ونصطدم دوماً بنظريات عجفاء، خاوية إلا من التهميش، تهميش الحياة، وتفريغها من المضمون، وتحويل العمل الأدبي إلى «خروفة» تُحكى للصغار قبل النوم ليناموا في سكينة.
ينسى المنظرون أن الأدب ابن شرعي للفلسفة، ووليد تاريخي من المشي على رمل الحكاية المتضمنة ثيمة معرفية ثرية بالصور الفلسفية، والمضامين الفكرية، ولولا الفكرية المختبئة بين ضلوع العمل الأدبي، لأصبح العالم يمر في مأزق الخواء، ويعيش العمل الأدبي في كهف الفزع الوجودي، والنأي دوماً عن المضمون، والخوف من الفتوحات التي يبشر بها العمل الأدبي الجاد.
من يستطيع أن يقول إن نجيب محفوظ لم يكن روائياً أيديولوجياً، ولو كان غير ذلك، لما توغل في نسيج الحارة المصرية، وكتب عن الطبقة الكادحة، ودخل في تفاصيل الأزقة السوداء في القاهرة.
في حديثه عن الرواية يقول الفيلسوف الأميركي وليم جيمس: الرواية ليست حقيقة موضوعية، بل هي طريقة تفكير، وهذا الكلام يقودنا لمعرفة ما إن الأيديولوجيا والأدب مستقيمان منفصلان لا يلتقيان مهما امتدا، أم أن الأدب والأيديولوجيا، ضلعان في الصدر، وجدولان في حقل الحياة لا يمكن الاستغناء عن أحدهما، ولا يمكن فصلهما بحجة واهية، شيفونية بغيضة، فالعالم اليوم يخوض معاركه الوجودية، تحت ظلال الفكرة، المستديرة حول عمل أدبي، فكيف لنا أن نستغرب ذلك والأديان كلها جاءت من باطن اللغة، محفوظة بفكرة أدبية، ورواية ينقلها شخص مختار إلى عالمه، وبالتالي تتحول هذه الرواية، المنقولة إلى عمل ديني بصيغة أدبية إلى مختار الصحاح الذي يدوزن لغة الرواية، ويحفظ دندنة تلك النغمات السحرية التي تتملك العقل والوجدان، وما الإنسان إلى حالة نغمية سيرورية، منتظمة، تتماشى مع أبجدية الحلم البشري في العيش تحت سقف الأمان النفسي، والذي تحيطه به الفكرة المؤدلجة، والموضوعة بشكل قصصي محكم.
نحن في كثير من الأحيان نتحاشى الاقتراب من الأيديولوجيا نتيجة لما لحق بهذه المحفظة البشرية من خراب، وتشويه، وتسويف على أيدي عبثيين، ما جعل الأيديولوجيا أشبه بأم الدويس التي يهابها الأطفال، في الحكاية التاريخية القديمة، واليوم حان وقت الخلاص من الأفكار الساذجة، ويجب أن نملك الجرأة، ونحدد المفاصل الأساسية التي تجمع العمل الأدبي بالأيديولوجيا، فهذا المصطلح مرتبط بالأدب، ارتباط حبل السرة بالمشيمة، ولا داعي للخوف، فالأدب في أمان طالما تعرّف الأديب على دوره في السير على خطى الإنسان الخالي من عقد الأفكار المتزمتة، التعنت الثقافي.