كلما ذهبت إلى البحر، تذكرت قصيدة الشاعر «إيليا أبوماضي»، (أيها البحر أتدري كم مضت ألف عليك، وهل الشاطئ يدري أنه جاث لديك، وهل الأنهار تدري أنها منك إليك، ضحكت أمواجه مني وقالت لست أدري)، فابتسمت وقلت سلاماً أيها البحر المطرز باللؤلؤ والمرجان وغناء النوارس، سلاماً لمدك وجزرك، سلاماً لسنابل الطحلب تلهو بها الأسماك. للحيتان التي تحرس كنوزك. سلاماً لهدوئك وصخبك. للسماء تلوّن ماءك بالظلام وبالضياء. وللرياح تلهو بموجك كما تشاء، وأنت ماضٍ في نشيجك، تواري الخديعة بالملح وبالزبد.
انظر إلينا، كم نحن نحنُّ لمرافئك، ونرتد مرتعدين من قسوة اليباس. فالأرض مكتظة بالمجازر، وما من سلام يحنو عليها. وأنت مهاجر أبدي تراوغها، وترمي رذاذك وتنسل مخاتلاً، لا وجه غير وجهك تحتويه، لا مرّ غير ملحك تشربه ولا رداء غير أزرقك المبجل.لا.. لكنهم لم يتركوا إلاّ العويل يرن كالأجراس من رعب على نوافذهم. لم يتركوا إلاّ نثيث الدم نقوشاً في منازلهم، ها أنت لاهٍ بالمجاديف وبالطحلب، باللؤلؤ المنسي في جوهر أصدافك الغامضة. 
انتبه قليلاً أيها البحر، كي ترى أن لا قناديل تلوح لغرقاهم، ولا سفينة تلقي بمرساتها لمن يطفو قليلاً. ولا شراع في مداك يهفون إليه، ولا يدٌ تمتد بالسلم إليهم، أنظر لوهمك إذ تدفق الماء وتنسى أنهم من رهبة الإبحار توّجوك، فشربت نخب حطامهم، وطوّحت بمن لاذوا إليك. ومضيت وحدك مفتوناً ومتئداً، أتذكر ذات صبح غامض كنت أسير بمحاذاة الشاطئ والأفق من نشوتهِ يهيئ ضوءه وينسل من عباءته الضباب. فهمست لي بالسر. كانت الريح على مقربة تسترق السمع، والموج من حزنه مضى في الهدوء، وفي النشيج. وحدي حفظت السرّ، والريح خائنةٌ وبعثرته في البيوت، ها أنت وحدك ترقب الإنسان وهو يشتعل بالحرائق. وماؤك كله عبثٌ عبرت عليه قراصنةٌ ودنسته، اذهب بعيداً أيها الماء الملوث بالنفايات، فنحن من خشيتنا عليك باركناك بالعشق وتوجناك بالريحان.
اذهب..وقل لي أيها المأسور من سمّاك بحراً أو مرافئ. وأنت لا شطآن لك، ولا مرافئ تؤوي التائهين؟، من أعطاك سفناً بلا مرساة؟، من ناداك..من ناداك؟، خذ ما أعطيتنا عبر التواريخ القديمة كلها. خذ ما أعطيتنا عبر التواريخ الجديدة كلها. خذ لآليك التي أحصت جماجمهم. خذ الشباك التي اصطادوا بها. خذ السفن التي رحلت إليك ولم ترجع إليهم إلا شظايا. خذ ما تشاء، واترك لنا من مياهك قطرتين، فلربما نطفئ بها الحرائق التي أشعلتها الضلالة، ونزرع بها بذرة في تربة أحلامنا. يا أيها البحر الذي همست أسراره لتنذرنا، فلن ينجو رضيع من الحرائق. خذ أحلامنا التي صغناها في غفلة منسية وأعد إليها عافية الأمل، فقد فسد الهواء من شدة الاحترار.