كان ذاكرة يعتمد عليها، فقد خبر الأشياء، وجرّب العمل وهو صبي صغير، يقول: «لا أتذكر أنني كنت طفلاً في حياتي! الطفولة أتذكر محطاتها، الختان تحت شجرة العويد، فقدان الأب، ثم غياب الأم في بيت رجل جديد، بعدها طرّ شاربي وأخضّر، بعدها عرفت العمل والاعتماد على النفس، ورائحة العرق».
عمل صغيراً في كل المهن البسيطة التي كان في مجملها أشياء تخص النخيل أو المساعدة في البناء وزفن الدعون، حطب وكدّ السخام، وتعلم السواقة مبكراً، بعدها كان مثل الابن لـ «حياة غريب» اشتغل معه في كل الأعمال التي توكل لشخص كان يومها بمثابة وكيل أعمال الدائرة الخاصة للشيخ زايد، رحمه الله تعالى، وكان شاهداً وعاملاً على بناء قصره في العين، ومن ثم قصر المقام، وزراعته، لقد ظل ذلك الرجل يسوق دون رخصة قيادة السيارات الثقيلة والخفيفة، وبعدها بسنوات طوال، طلبوا منه أن يحصل على رخصة بعد أن أصبحت إلزامية، كان يومها يضحك من مفارقات الدنيا الجديدة من الذين يختبرونه لإعطائه رخصة السواقة علّم بعضهم السواقة.
كنا في صغرنا نراه متعجبين كيف يرقى النخل الطوال بالحابول، ويخرف من رطبها أو يجدّ عذقها أو كيف يسوق سيارة «بيت فرّت» أو يقود «فوزه» صهريج المياه لتوزيع الماء على البيوت وخاصة في المناطق البعيدة، الأمر الذي شكل لديه علاقات، وخزّن قصصاً تحكى عن الناس والأمكنة، كان مثالاً للرجل الذي يعمل، ويعمل دون تعب أو شكوى، ولا يجد صعوبة في عمل أي شيء يوكل له.
سنوات مضت، حتى اكتشفت أنه يحمل ذاكرة حافظة عن الناس والأشياء والأمكنة، ذاكرة تغطي مساحات كبيرة، وسنوات كثيرة، وحين كنت أجلس عنده، كثيراً ما أخرج بفائدة أو أجد ضالة أو انتفع بمثل قديم أو مفردة عامية غيبتها الحياة الجديدة، وكل ذلك يخرج بروح مرحة، وبطريقة مزحة، لذا كان أحد الحكائين المهمين، لأنه عاصر حياة الكدّ والتعب وحرقة العطش، وحياة التغير والتبدل، وما يصيب النفس من عطب، نتيجة غياب المُثُل، وفقد الأشياء لبراءتها، والأمكنة لطُهرها.
لم أكن أتخيل أن ذاك الرجل الذي قدم من عمل وتعب وجهد لا يتوقف أنه سيهرم يوماً، فالصورة في ذهن الصغير تبقى على حالها، ولا يريد غيرها، ولو فرض الزمن سطوته، واللحية «المخنجرة» والشارب، لم أكن أتصور أن أشهدهما، وقد رعى الشيب فيهما حتى تحولا إلى حقل من الرماد، كما لم أكن أتصور أن أراه يوماً يئن من وجع أو يشكو عضالاً أو لا يسرح مبكراً للعمل.
حين افتقدت ذاك الرجل في غفلة من الزمن، شعرت بتلك الغصة التي لها في الحلق طعم الحنظل! تاركاً تلك المساحة الكبيرة في الرأس التي كان يعبئها بذاكرته الغنية، ومفرداته الضاحكة.