يأتي الصيف، ومعه تنضج ثمرات العذوبة، ويشعر الناس بوفرة مشاعر الفرح وهم يتأملون تلك العناقيد المنسحبة على فضاءات ساخنة، وعندما تنظر إلى ذلك المشهد الصيفي المدهش، تستعيد أياماً وتستدعي أحلاماً، وتتألق أمامك تلك البساتين الممتدة عبر الأفق وتحت الجبل، وبين بيوت المصطافين والذين خرجوا من بيوت الشتاء في القرى المسترخية عند الشطآن، وجاؤوا إلى الظلال السمراء، الناضحة عطراً بهيجاً تنفحه عروق النخل واللوز، وتجد صغاراً لا تبرز إلا رؤوسهم الصغيرة، تتلاحم أجسادهم الصغيرة في عمق الأحواض الإسمنتية التي تبتلع مياه المضخات، ثم تتقيؤها، لتخرج جداول دقيقة باتجاه جذوع النخل، وتسمع عن بُعد صوت المزارع الأسطوري (عبود التشكيلي)، وهو يزجر تلك العصافير الصغيرة لئلا تثير الشغب، ولا تحطم سيقان أشجار اللوز وهم يقذفونها بالعصي، وكرب النخل، ولكن تستمر الفوضى الجميلة، مثل سيمفونية صباحية تنسجم مع تغاريد البلابل، وحنين الحمام البري لقرائن ربما غابوا بحثاً عن حبات الرزق.
اليوم ربما حدثت تحولات في الزمن وكذلك في القيم والمشاعر، وهذا أمر طبيعي، فلكل مرحلة نواميسها، وقوانينها ولا يمكن لأي قوة أن تقف في وجه دورة الحياة، فمن الطبيعي أن نتغير، ومن غير الطبيعي ألا نتغير، فما بين الثابت والمتحول، هناك إنسان يدير عقارب الساعة، ويتحرك معها، ويتغير، ولكن عندما تصبح المسألة قلب النواميس وتحريك عجلة المشاعر إلى انعدام المعنى، والفراغ الوجودي هنا لا بد من وضع السؤال التالي: لماذا لا يعرف بعض الناس أن يفرح؟ لماذا لا يستغل البعض زمن الرفاهية وترف الحياة لإسعاد نفسه والآخرين؟ 
أسئلة كثيرة تقتحم الرأس عندما نرى بعض المشاهد المزعجة، من قبل شباب أنهوا العام الدراسي، وتفرغوا للعبثية، وبخاصة أولئك الذين يعتقدون أن ملء الفراغ يتم عبر المخاطرة بالأرواح، والتسبب بكوارث تحول الفرح إلى أحزان يتفطر لها الفؤاد، فقط لأن هذه الفئة خرجت من المدارس بلا هدف، وهذه معضلة اليوم تؤرق أولياء الأمور، وكذلك المؤسسات الإصلاحية، وعلماء الاجتماع، والمهتمين بالتربية، والثقافة، ولا أعتقد أن هناك حلاً، أهم من التوجه أولاً وأخيراً إلى الأسرة، فالأسرة هي بيت الداء، وهي مكمن الشفاء، المهم أن تتضافر الجهود، والوقوف على مثل هذه الانحرافات عن قرب، ومن داخل الجدران، والتحرك نحو فتح الغرف المغلقة، والتي أصبحت اليوم عادة تقليدية لدى الصغار والكبار من الأبناء، لأنه عندما تغلق الأبواب، ولا يجد الطفل أو الشباب أمامه غير جدران خاوية، صماء، ومع مرور الوقت يصبح الأمر وكأنه في عزلة غسل الدماغ، وتتطور الحالة إلى فقدان البوصلة، ولا عثور على الأنا، بل كل ما يحدث هناك فراغ وجودي واسع، يغرق هذا الكائن الصغير في لجته، ولا طائل من العلاج، إذا لم يتم الإسراع في انتشاله قبل فوات الأوان.