كتب الشاعر الفلسطيني محمود درويش مرة: «إن أعادوا لك المقاهي القديمة من يعيد لك الرفاق».
أرنست همنغواي:
«المقاهي هي المعابد الصغيرة التي يتجمع فيها الناس بحثاً عن الروح، هناك حيث تتلاقى الأرواح وتنصهر».
غابرييل غارثيا ماركيز:
«المقاهي ليست مجرد أماكن للاسترخاء، بل هي مسارح للذاكرة، حيث تجسد القصص والأحلام فيها تتنفس الحكاية نغمة التاريخ».
كان من ضمن اهتماماتي حين زرت الأرجنتين أن أرى ذلك المقهى العريق الذي يستقر في شارع «أفينيدا دي مايو رقم 825، والذي يعد أيقونة بوينس ايرس، وقد عرفته فيما كتب بعض أدباء أميركا اللاتينية، ومر عليّ من ضمن مقاهي العالم القديمة الجديرة بالزيارة لمسافر مثلي يعشق مقاهي المدن، لأنها تحمل متعة للنفس وذاك الرضا الذي يدخل إلى القلب حاملاً معه سعادة ما.
«تورتوني Tortoni» أقدم وأشهر المقاهي التاريخية والرموز الثقافية في المدينة، وفي أميركا اللاتينية، تأسس عام 1858، ويقع في حي سان تيلمو، أحد الأحياء القديمة والحيوية، يمتاز بتصميم داخلي أنيق يعكس الطراز الكلاسيكي والتاريخي، مع تفاصيل زخرفية فريدة من العصر الذهبي لبوينس آيرس.
طالما عُدّ مكاناً مثالياً للاستمتاع بفنجان قهوة هادئ، أو تناول الحلويات التقليدية، والتعرف على التاريخ الأدبي والفني للمدينة، كان مقصداً مفضلاً للكتّاب والفنانين والمثقفين والسياسيين والصحفيين، بحيث يمكن لهذا المقهى أن يختصر لك تاريخ الأرجنتين، بالإضافة لتقديمه المأكولات والمشروبات التي من أشهرها مجموعة متنوعة من القهوة الممتازة، والحلويات التقليدية، خاصة التورتوني الشهير.
استضاف المقهى على مدار الأعوام الطويلة الكثير من اللقاءات والندوات الأدبية، وازدهر كمركز للنقاش الفكري والإبداعي وتوقيع الكتب الشعرية والروائية والتقديم للأفلام السينمائية الأرجنتينية الجادّة والهادفة، مثلما استضاف المقهى شخصيات أدبية وفنية بارزة من جميع أنحاء العالم وشاركوا في فعاليات ولقاءات فكرية وثقافية فيه، الكاتب الأرجنتيني غورغيس، الشاعر الإسباني لوركا، الفنان بيكاسو، ايفيتا بيرون، دييغو مارادونا، الملك خوان كارلوس، هيلاري كلينتون، والكاتب البرتغالي الفائز بجائزة نوبل جوزيه ساراماغو، وغيرهم الكثير.
كان المقهى منصة هامة خلال الفترة التي نشطت فيها حركات التنوير والأدب الوطني في الأرجنتين، وأصبح رمزاً للهوية الثقافية، والتعبير عن القضايا الوطنية والديمقراطية، مقهى تورتيوني ليس مجرد مكان تاريخي، بل هو رمز حي للتواصل الأدبي والفكري.
كانت تلك اللقاءات والقصص التي جرت بين جدرانه ساهمت في تشكيل المشهد الثقافي للأرجنتين، وأثرت على الأدب والفن، وأطلقت العنان لأجيال من المبدعين الذين استمدوا الإلهام من أجوائه، فكم غنى شاعر مظلوم قضى جزءاً من حياته في زنازين سجن مبعد، أو سكب رسام دمع عينه وحبر ألوانه، وكم نسج سينمائي مشاهد لأحلام أفلامه، أو بترت أصابع موسيقيّ فقط لأنه غنى «لا تبكي من أجلي يا أرجنتينا»! وغداً نكمل.