كيف يمكن أن نتقبل فكرة «الرحيل الدائم» دون أن نفقد القدرة على التعلق والارتباط بالحاضر؟! الحقيقة أن الرحيل ليس فكرة فقط، بل واقعاً نعيشه كل يوم.
كلما تقدم الزمن تأكدت أننا «ضيوف عابرون»، وأن المستقر ما هو إلا «وهم» نعيشه في مخيلتنا، وأي استقرار نصنعه لأنفسنا فهو في النهاية مؤقت. إننا في حركة دائمة، وما نسميه مستقراً ليس سوى محطة مؤقتة قد تعيدنا إلى نقطة البداية أو تدفعنا نحو رحلة جديدة.. وهكذا.
وسواء كان هذا الانتقال زمنياً، «أكيد» لا سلطة لنا عليه، أو انتقالاً مكانياً نحن مضطرون إليه لعدد لا متناهٍ من الظروف، أو حتى نفسياً من حال إلى حال، فذلك تأكيد على أننا مخلوقات مهاجرة جُبلت على الترحال.. فلماذا نتعلق إذا؟!
إن إدراك هذه الحقيقة يغيّر نظرتنا للآخرين ولأنفسنا، فالعلاقات، مثل الأمكنة، ليست أبدية، وإنما لحظات نعيشها. وكلما ازداد وعينا بعابرية كل شيء، تضاعفت قدرتنا على تقدير قيمته في الحاضر. يعتقد الفلاسفة الرواقيون مثل «ماركوس أوريليوس» - وهو أيضاً واحد من أهم من حكموا الإمبراطورية الرومانية - بفكرة الارتباط الواعي، بمعنى أن نتعلق بالحاضر بكل شعوره وجماله، لكن من دون محاولة امتلاك الثابت أو مقاومة التغير. فمعرفة أن كل شيء يذهب لا تقلّل من قيمة الحب لأشخاص، أو الارتباط بأماكن، أو الاعتداد بالأشياء، بل تزيدنا وعياً بها. كذلك ينظر بعضهم للاستقرار كمفهوم نسبي وليس مطلقاً، إذ يصبح التعلق بالحاضر ممكناً عندما نستقر في التجربة وإدراكنا لها في اللحظة، وليس بالضرورة التعلق في مكان أو شكل ثابت أو حتى أشخاص!
في اللغة، لكلمة «الرحيل» مترادفات عديدة، منها الابتعاد والترك والنزوح والإعراض والبرح والمغادرة، ولكل مفردة أحوالها المتغيرة ووقعها النفسي المختلف، ويتنوع استخدامنا لهذه المفردات باختلاف تجاربنا الإنسانية، كما تتباين محاولتنا لفهم تداعيات الحالة؛ فالمؤقت يعلّمنا أن نستمتع باللحظة كما هي، أن نحب الأشخاص بصدق، ونعتز بالتجارب مهما قَصُر زمنها. ففي النهاية، قيمة الحياة ليست في دوامها، بل في قدرتنا على عيشها بامتلاء في اللحظة الحاضرة.


