بعضهم يعتقد أن الحنين عودة إلى الماضي، والترسب عنده، وهذا فعل مستنكر ومدان، بينما الحقيقة الدامغة تقول، إن الحنين هو عودة إلى الذات، والتي فلت زمامها، واعتقلت هناك عند زاوية مفتوحة على السيولة الذاتية، وهو الأمر الذي يحدث الآن في عالم اليوم.
العودة إلى الذات، عودة إلى الوعي، عودة إلى إدراك إننا يجب أن نشد اللجام حتى لا تفر الجياد، وتحيد عن مسلك السوء، فتضيع الاتجاهات، وترتبك عربة الوصول فلا تصل، ولا تتصل بحبل الربط والانضباط، ويصبح العالم مجرد نشارة خشب، تنثرها الريح على بقعة رملية، تختلط فيها، أشواك التيه.
نحن نحتاج إلى الحنين كحاجتنا إلى الحنان، لأن ما بين الحنين والحنان خيطاً رفيعاً يؤدي إلى ازدهار جمهورية القلب، وتخلصها من غبار، وسعار، وتحرر الإنسان من تروس الآلة الجامدة، وتحررها من عقد الحبال السميكة.
الحنين هو خطوات تمشي على أهداب القلب، وهو لمسات تمضي على الرموش، وتغسل العين من غبار لهاث، ورثاثة تعرقل عربة التطلعات من لمس أنامل أزقة كانت مأوى الأحلام، ومهجع الأيام، كانت دندنة الروح على قيثارة الصور البلاغية لخطوات حفرت حروفها على دفتر المشاعر، مستلهمة القداسة من بصيرة وعت مبكراً، وذهبت بالفكرة نحو غايات، وروايات حكتها النجمة لصغير كان في مهد الأحلام، يناغي حضناً، ويسهب في الغناء كعصفور يتفقد عشه، كفراشة، تشم رائحة الوردة في نهار التألق، بألوان وشذى.
الحنين هو الصعود إلى جبل الذاكرة، واستلهام الدرس والموعظة، من طائر يخفق بجناحين أخف من ورقة التوت، وأرهف من بريق حسناء استيقظ الحلم تحت جفنيها، يروم إلى قمر زاحمته النجوم في شعاعها، فاستعاض ببريق عيني امرأة سهرت على خيال وفكرة رائقة.
الحنين، رنين في القلب، ودوزنة لقصيدة عصماء تمرّدت على الرتابة واختارت البداية نقطة انطلاق وجد، وجد، وجدوى، الحنين مساحة طيعة بين الذاكرة الباذخة، وصور، ومشاهد تمادت في الصهيل، تبغي العرفان، والعرف، وصوت عرافة غرفت من صندوق البدايات ما عرفها على مجهول، ومعقول، وجدل الكلمات في غضون معجم قطف من الجمال ما يجعله مرآة تعلقت بجدار الذاكرة، واستوت على جودي التاريخ، وأحلام اللحظة المباغتة، وعندما نفتح دفتر الحنين نجدنا هناك قابعين مثل أطفال ينتظرون شطيرة جبن تخفف من وجع الأحشاء.
ها نحن نعشق الماضي ليس لأنه قديم، وإنما لأن في صندوقه تكمن أسرار البهجة الأولى، عندما صرخ الطفل، وهو يخرج للعالم يبحث عن نفسه في الوجود، فلا يجد سوى حلم ضئيل في بداية التشكل، في البدء، يقول هيت لك.


