انتبه فجأة إلى صوت زوجته تخبره بحزم لا يقبل التأجيل، أن جهة ما ستأتي غداً لجمع ما تركه من أغراضه القديمة التي جلبها إلى بيته، من مكتبه منذ تقاعده. مؤكدة أنها سترمي كل ما فيها من ملفات وأوراق تراكمت عليها السنوات. فهم الرجل أنه يجب أن يفعل شيئاً تجاه هذه الأوراق، بعد أن وعد مراراً أن يتدبر أمرها ولم يفعل.
اقترب صاحبنا من صناديقه القديمة بلا رغبة حقيقية في الاحتفاظ بشيء، كان مقتنعاً بأن ما لم يحتج إليه خلال هذه السنوات لن يفيده الآن. لكن ما إن بدأ يعبث بتلك المحتويات حتى هبت عليه رياح ذاكرة مضت. أوراق صفراء، صور باهتة، بطاقات لأصدقاء غابوا، أرقام هواتف، بدا وكأن الأمر استدعاء غير معلن لذاته القديمة، التي أهملها كملف كبير لم يُغلق بعد. أخذت الذكريات تنسكب عليه بحسرة: اعتذارات لم تؤدَ لأصحابها، لقاءات رُحِّلت لفُرص لم تأتِ، أسماء بقيت عالقةً بين الأمل والخذلان، رسائل تنتظر طابعاً بريدياً تحمل بوحاً مؤجلاً!.
بعض الذكريات -خصوصاً تلك التي نتعمّد إخفاءها في ثنايا من الذاكرة- تأتي مُحملةً بالكثير من الوجع الصامت، لذلك نتركها مفتوحة، بحجة أننا ما زلنا نملك الوقت الكافي لإغلاقها وإنهاء ألمها. غير أن الحقيقة عكس ذلك تماماً. فتلك الأشياء التي ظلّت بلا حسم، تعيش في مناطق رمادية من الذاكرة، بين الخوف من المواجهة، وبين الوهم بأن هناك دائماً وقتاً سيأتي لإصلاحها، وما هذا إلا حيلة نخدع بها أنفسنا هرباً من المواجهة.
نتعامل مع الحياة وكأنها تتسع لكل مؤجلاتنا، فنتوهم أن هناك دائماً متسعاً من الوقت لنفعل فيه أشياء تُصلح ما أفسدناه في طريق حياتنا، أو نرمّم ما خربانه على أقل تقدير. غير أن الوقت لا يُبقي لنا متسعاً منه إلا للندم على ما لم نفعل. محظوظ صاحبنا، فقد سُمح له بعمل نهايات لائقة لبعض ما مضى.. فهل يستدير أمره هذه المرة؟!.


