كان من أولئك الرجال الذين لا يهابون شيئاً، ويذهبون صوب الأمور إلى منتهاها، وهي صفة كانت تعم في المكان ولا تخص، بحكم الوقت وقسوة الحياة، ولا ثمة خسارة تستحق في النهاية في عقول أولئك الذين جبلوا على مناطحة الخطوب، كانوا ينتزعون الأشياء انتزاعاً، لكنهم كانوا ينتصرون للأخ وابن العم والصديق، ومن جاء منتخياً أو زابنّاً، وغالباً ما تختلط الأمور، فالخنجر قد تشتر خاصرة ابن العم أحياناً إنْ كان باغياً أو منتهكاً ستر وحرمة أحد المعارف والجيران، كانت الحياة نقيّة بقدر ما كانت مضطربة، وقد تأخذ بجريرة الميت بلا جُرمة.
كان مربوعاً، وقاسي الملامح، وعظمه قوي، والقليل الذي قد يفت من عضده، إنْ لم يجد ما يمتطيه، انتعل قدماه وكانتا الموصلة، لا رمضاء ولا شوك أو حجر قد يجرح الأقدام الخشنة التي لو خطفت على شخص جرحته وأدمته، يعتمر بعمامة غليظة كانت تميز أهل الواحة، محوطة بخزام من وبر وصوف، مغروز فيها مدواخ الذي كان عادة ما يصنع من عظم أو رصاصة فارغة «جيلة»، لا يخرج بلا عصا أو مشعابّ أو قَبّ في اليد، والخنجر العُماني ينام بغمد واحد على السُرّة، ذات يوم صاح الخبر أنه تم القبض عليه نتيجة خلافات ودم ومنازعات، وأنه عقّوه في المربعة التي كانت قلعة ومركزاً وحبساً جديداً بنيت عام 1948 كبرج مراقبة وحراسة، بعد إنْ ساق الأهالي لها الحصى من معالي الواد، وعملوا لغيغة المدر والتبن تحت شجرة «الجَزّة» التي ستشهد لاحقاً القصاص ببعض المعتدين أو المجرمين من يحكم عليهم القاضي بعد إقرار الشهود، أما جذوع النخل والدعون المزفونة حديثاً، فقد سيقت من نخيلهم، وتعب «زجيرهم»، كانت المربعة ظاهرة وتبدو للقادم من بعيد، وحتى لو من «الجلعة» أو العقدة، كانت تشكل علامات أربع في أم سبع البلادين حينها، مع قلعة الجاهلي، وحصن المويجعي الغربي، والحصن الشرقي.
ظل حبيساً في المربعة لأيام، كانت قاسية عليه، وثقيلة على رجل مثله ما كانت تحدّه الجدران، ولا يرتضي بغير رمال السيوح المترامية ميداناً أو طرق النخيل التي يعشقها ويعرف مجرى مياهها وأفلاجها، مسرى ومساراً.
وفي صبيحة يوم صاح الخبر ثانية، أن الرجل فكّ قيده المربوط في خشبة لا يزحزحها ثور «بو قرونه»، ولطم «تفق صمعاء» من المخزن، وغافل الحراس، وعفد الجدار الطيني، وهذاك وجهه نحو واحة النخيل، ومجرى مياه الأفلاج، الذي شق طريقها المظلم بين الفهود وبيوت الصخور، متتبعاً عروق الماء، لم يستطع أحد أن يقص أثره، لأنه جعل هروبه في كهوف المياه العميقة التي تسمع فيها صفير الجن، محاذياً أمهات العروق، حتى ظهر في فلج الجيمي، ومنها دخل البريمي إلى صعراء وحماسا، وغاب أثر حسه، ظافراً بحرية وبندقية وصيت بين الناس، قصة الهروب الكبير ظلت تتناقلها الألسن، وتحفظها الصدور، حتى هو حين يذكّره الناس بها، وهو يسير على حمارته في آخر عمره، كان يبتسم، ولا يريد أن يزيد على تلك القصة التي كبرت في ألسن وصدور الناس.