تتقارب أحياناً الأشياء الغالية والمهمة، وتتعامد أحياناً ذكرى الفقد، وبهجة المناسبة، مثلما هي الذكرى السنوية لرحيل القائد والمؤسس، طيّب الله ثراه، يعقبها الاحتفاء بيوم العَلَم الذي كان ذاك البيرق الاتحادي حلمه الكبير، ومشروع عمره، وكد وتعب وسهر وصبر على الكبيرة والصغيرة، لأجل ذاك الوطن بمكانته وبيرقه، نحت الصخر وحرث البحر، وزرع السباخ والقفر.
هناك أشياء كثيرة في الوطن تذكرني بالرجل، وهو العصيّ على الذاكرة أن تنساه، وهو الأبيّ الذي ما زال القلب يحبه ويذكره، والرأس ينحني لخيره وفضله وجزيل عطاياه، لا أعرف لِمَ الفجر مرتبط دوماً عندي بإطلالة وجه ذاك القائد، طيّب الله ثراه؟، ولا أتذكر أنني جلت في مدينتي باكراً إلا وكان يسبقني في الأمكنة بظله البارد، هناك حيث العمال في غبشتهم نحو الرزق الحلال، وحيث العجلة تدور، توقظ البحر ليدرك انحساره، ولا تجعل الرمل متمدداً بتصحره، فالمكان ما زال يصطبغ بهالة ذلك الرجل، وبقامته المديدة، وبضحكته التي تبرّد القلوب، وتجعل للفرح ميداناً أخضر، وتعطي للحياة لوناً أبهج وأنضر، كان العمل هو أول من حمل مصباح بشارته، أتذكره بحزن دفين، دوماً ما يتهيأ لي بثوبه الأبيض الخفيف هناك أو كأنني لمحت آثار عجلة سيارته بمرافقيه القليلين هناك أو وهو يشير بعصاه نحو أفق حلمه، ومبتغى إدراكه، والذين حوله لا يجارونه، لا في مشيه، ولا في امتداد حلمه، لِمَ الفجر دوماً يذكّرنا بالخيّرين، وبالناس الطيبين؟، لِمَ العظماء والعزيزون على القلب لا يبرحوننا في غيابهم؟، هل لأنهم قُدّوا من إحسان وطيب؟، أم لأن كل الموجودات تضرع لهم بالدعاء، الشجرة المروية بخضرتها، والنخلة التي لا تخاف أن يرهقها العطش، والطير الذي يتفيأ ظله، والإنسان الذي أمن أهله، وآمن على نفسه، البعيد والقريب الذي جاءه حقه، ورفع عنه ظلمه، هم موجودون ما وجد الخير، وسادت الرحمة. في كل فجر يصبح على ذكراه كل عام، يتوحد بي الحزن، وأذهب في فجر مدينتي، لأنه القادر أن يفتح نوافذ القلب، والقادر أن يدمع العين دون أن يجرح مجراها، يتراءى لي، وكأنه أخذ صِبَاحْة المدينة لتوه، وسار يجول في أطرافها، ويُصبّح على سكانها، يسايره النسيم، ورفرفة العلم في مقدمة سيارته، ويطيب حدو قصيده، ونشيد صدره فخراً بوطن، نحت من أجله الصخر، وحرث لبيرقه البحر.
من أجل كل شيء جميل في بلادي، ومن أجل تلك الراية التي لم تسع إلا في الخير، ولم تسلك إلا الخير، عوناً للصديق وسنداً للأخ، وخيراً عميماً ومغدقاً على الجميع ممن نتشارك معهم تلك الروح الإنسانية الغالية، بشارتنا التسامح، ورسالتنا المحبة. من أجل رئيسنا خليفته من بعده «أبو خالد» الخير والوفاء والعزم والمضاء، ولإخوانه نخوة الدار، هم سيف وغمد، عين تغفو، وعين تحرس، هم أجنحة أحرار بها حلقنا بعيداً في العالم، وهم رواسي جبال بها ذهبنا عميقاً في الوطن، حكامنا أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد إخوان وأبناء المؤسسين الذين رفعوا علم دولتنا لأول مرة، هم عمادها وهم ذخرها وهم المرتجى من كل شيء، والمؤمل في كل شيء، بهم ومعم سيكون الغد أجمل، والوطن أكبر، والخطى المرسومة بختم زايد القائد الباني والمؤسس أسرع وأطول.
وإن كان الفضل ينقص إن لم ينسب لأهله، فلأم الإمارات.. أم محمد تاج الرأس.. كل الفضل والبركة، فعملها كثير، وبرها كثير، وخيرها كثير، كانت دوماً خير المعين، وخير الجليس والعضيد لذلك الرجل الكبير الذي كانت وصيته، وتمام حكمته، بأن يبقى علم الوطن عالياً وكبيراً، مرفرفاً وعزيزاً.


