عندما أرسلت أختي مقطعاً قصيراً صُنع بتقنية الذكاء الاصطناعي، يَظهر والدي الراحل فيه وهو يحتضنها ويبتسم، كما لو أنه ما زال حيّاً بيننا، تجمّدتُ أمام المشهد. شعرت بوخز عميق في صدري، خليط من الغضب والحنين والارتباك، شيء ما في هذا «اللقاء المصنوع» بدا لي مهيناً أكثر مما هو مؤثّر. لم أستطع أن أُحدد بالضبط ما آلمني، هل هو شعوري أن ذلك التمثيل الرقمي هو استخفاف بالموت، أم أن استحضار من رحلوا بهذه الطريقة يشبه العبث بملامح ذاكرتنا.
أن نتذكّر من رحلوا، يعني أننا نقوم بفعل (أخلاقي) مرتبط بالحقيقة، أي من المفترض أننا نتذكر بأمانة وصدق واحترام من عاشوا بيننا في الماضي، بتجربتهم كما هي، ليس كما نريدها وعلى هوانا. وعندما نفتعل حضورهم بهذه الطريقة الرقمية، من أجل العزاء أو الإبهار، فإننا نُظهرهم في مواقف لم يعيشوها، ونُلبسهم أشياء لم يلبسوها، ونجعلهم يفعلون أشياء لم يفعلوها، وفي هذا خيانة للذاكرة قبل أن تكون خيانة لهم.
لطالما شعرت بذلك عندما بدأت تنتشر فيديوهات لشخصيات عامة متوفاة، مغنون مثلاً، ورغم إبهارها، إلا أن فيها شيئاً فجّاً يعبث بقداسة «الغياب». وإنْ تفاعلنا مع تلك الشخصيات خارج سياقها التاريخي والأخلاقي، حين نُركّب لهم أفعالاً لم يقوموا بها، هو إخلال بالاحترام الذي يفرضه الموت، ومكانته التي لا يجوز انتهاكها أو العبث بها مهما بلغ ألم الفقد والحنين.
ما نعيشه اليوم هو ولادة لما أُطلق عليه مؤخراً «تكنولوجيا الحُزن»، أي السماح للتكنولوجيا وأدواتها أن تعبث في أكثر مناطق الإنسان هشاشةً وخصوصية.. منطقة الفقد. هذه التقنيات لا تكتفي بمواساتنا، بل تحاول أن تُعيد صياغة العلاقة بيننا وبين موتانا، وكأنها تمنحنا وهماً بقدرة جديدة على التعاطي بلطف مع الحنين المزيف لشيء لم يحدث، لكنه بدا حقيقياً لأن الذكاء الاصطناعي صنعه لنا بصور أو أصوات.
ربما كان غضبي يومها ونهري لها بشدة، عندما أخذت صوراً حديثة لإخوتي لتدمجها في هذا الموقف التمثيلي المصطنع، نوعاً من الوفاء لذكرى والدي كما كانت بالفعل. وفاء لفكرة أن الذاكرة لا تحتاج إلى إعادة إنتاج كي تظل حية، بل إلى صدق في التذكُّر كي لا تموت.


