الإثنين 25 سبتمبر 2023 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«الجداريات الفنية».. مساحات ثقافية ملهمة

جداريات في حي الفهيدي التاريخي ضمن مهرجان «سكة» (تصوير: إحسان ناجي)
8 يوليو 2023 00:48

نوف الموسى (دبي)

في كل مبادرة فنية وإبداعية، تتخذ من الجداريات الفنية مساحة ثقافية لإبداعات التجارب الشبابية، يحضر السؤال عن أثر البنى البصرية في تصوير هوية المكان، وارتباطها بفضاء يوفر للفنانين الناشئين أكبر قدر ممكن من التعبير عن ذواتهم الشخصية، وتفاصيل حياتهم اليومية واهتماماتهم الجمالية، ونظرتهم للغة بمفهومها في الشكل واللون والزمن والحركة، واستمرارهم في تمرير أصواتهم عبر مرويات تفاعلهم مع المجتمع، بحيث تتغنى الجداريات بالحوارات المستمرة حول الفكرة المنبثقة من الخيال الواسع، والحُلم القادم من عمق الفراغ، وتجلياته المتمكنة في الواقع بوصفه فعلاً مليئاً بالتراكم الشعوري عبر التجربة الإنسانية الطويلة.
ومن هنا فإن الجداريات وعبر تاريخها الممتد، إنما تصور الثقافة والمجتمع من خلال القصص وأنظمة القيم والتخيلات والإلهامات، ولذا فإن رؤية الفنانين الناشئة وهم ينتقلون بين تلك المساحات العامة، تعكس بالضرورة الاهتمام اللافت بتطور مقدرتهم على الإنصات لصوت الإلهام الكامن في مواهبهم الأولى، حيث إن كل شيء كان يحتاج إلى جدار، يسند إليه الإنسان روحه، ويتحسس عبره أبعاد المسافة الفاصلة بين طبيعة الأشياء في تشكلها العفوي، ورغبة الإنسان في إضفاء تفرده المحسوس عليها، فبمجرد أن يخط لحظة شكلية بدائية على الجدار، فهو بذلك ينسج احتمالات جديدة، تنمو فيها عفوية الإبداع الذي بطبيعته يحمل سجية التسخير نحو كل إبداع عظيم، تزهو به الحياة العامة، ويستشعر به الفنان حضوره وتمكنه الخالص في إنجاز اتصاله مع اللحظة الفنية، المعنية بتخاطره مع العالم في خارج فضاءاته الفكرية والحسية والمادية.
الجدار والقصيدة
وربما يعيدنا الحديث عن الجداريات بشكل فني إلى روائع مايكل إنجلو، فالشكل على الجدار هو القصيدة البصرية، بها يسمو الجدار ويصبح مرآة للعالم، ويحدث لأول مره أن يتنازل الجدار عن صفته الصماء، كونه قادراً على العزل والحماية، إلى أن يهدي شفافيته لرواية أو سردية تاريخية، ويصبح بذلك جسراً بين الحدود والأزمنة، وموقفاً للإنسان اتجاه الطبيعة الواسعة بغموضها وتناقضها المحفوف بموسيقى اللون، ما يجعل مهمة النقد الفني، في الكتابة المفتوحة حول العلاقة القديمة بين الجدار والهوية، أمراً في غاية الأهمية. فما تصنعه المتعة العابرة في مشاركة الفنانين الناشئة وطلاب الجامعات أصحاب التخصصات الفنية، ليس صبغة مجتمعية اعتيادية، بقدر ما هو التفاف مسكون بحاجة الإنسان للانتماء والسكنى، مستحثاً نفسه بوضع علامة على الجدار العبّر عن الانتماء نفسه، حتى يتسنى له دائماً طريق العودة إلى البيت، ومن هذا نتوصل إلى أن مشاركة الشباب في رسم الجداريات، هي حفرٌ في التعبير عن ذواتهم، يلبي حاجة الانتماء لديهم. 
أنماط تعبيرية
وفي حوار «الاتحاد» مع الشابة فاطمة الحسيني، طالبة في جامعة زايد، ضمن تخصص «التصميم الجرافيكي»، خلال مشاركتها في رسم جدارية، بالتعاون مع 6 من الطالبات والفنانين الناشئة، بمهرجان سكة للفنون والتصميم لعام 2023، جاءت ردة فعلها لافتة للانتباه حول السؤال عن طبيعة شعورها نحو المشاركة المجتمعية الأولى لها في الحدث حيث قالت: «عندما يأتي شخص مهتم بما كنّا نرسمه على الجدار، ويسألنا عما نستخدمه من ألوان، وما نختاره من أنماط تعبيرية ذات علاقة مباشرة مع موروثنا الثقافي المحلي، كنت أشعر بحالة من البهجة، شغوفة بفكرة الحوار الذي يجمعنا، مثلما هي الأصوات التي تتبادلها الطبيعة في تناغمها الدائم. أتذكر تماماً موقف سائح من اليابان، حضر إلى حي الفهيدي التاريخي، بغرض تجربة الأكلات الشعبية، كونه مقصداً سياحياً ثقافياً، ولم يكن يعلم عن المهرجان، فتوقف بالقرب منّا، وكنا وقتها نرتب الألوان والتصاميم، ونتأهب للبدء بها، وسألنا عما نود فعله، فأطلعناه على التفاصيل وقتها، لنتفاجأ بأنه عاد في اليوم التالي، ليلاحظ التقدم الذي أنجزناه في الجدارية. لا أعلم إلى أيّ مدى أثرت الجدارية كفعل ثقافي في كل من هو قادم لاكتشاف ثقافتنا المحلية، ولكنها بالنسبة لي نقلة نوعية في تكوين حوارات تثري طريقتي في التعبير عن نفسي». 
تشكيلات بصرية
وتعتقد فاطمة الحسيني، أن الجداريات مسرح مفتوح، تتحرك الهوية فيه بوضوح، حيث إنه لا يمكنك أن تخفي شيئاً عن الجدار، هو ينطق بشكل ما، يمتلك روحاً مستعدة للتشكل، وقد يختلف الأمر بين جدار وآخر، إلا أن تجربة التفاهم أو ربما تطويع الجدار وتهيئته، لتشكيلات بصرية عديدة يظل أحد المكونات الأساسية لقياس مقدرة الإرادة الإنسانية في تذوق الجمال وتبنيه كأداة للبوح والتعبير وأيضاً الغناء. فهناك جدران تصمد باللون الدافئ المستكين، وهناك جدران تقوى بإضفاء الحرف العربي عليها، مثلما يفعل حرف الواو باتصاله، والألف في امتداده، بينما تأتي الأنماط الشكلية في الموروث الثقافي المحلي، تلك التي نلحظها في الوسائد المحلية القديمة ونقوش السجاد ومناديل الدانتيل، وملابس النساء، بمثابة لمسة أنثوية طاغية في أمومة الأشياء، تلين الجدران وتمد في أعمارها، وبمجرد أن تراها في العمارة التقليدية كذلك، تظن أنها تقرأ عليك مناجاة وهمهمات الأمهات، فالأمر برمته يبدو وكأنك جعلت الجدار ينطق باسم أُناسه وساكنيه.

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة الاتحاد 2023©