هل الغنى المادي يعادله غنى وجداني وعقلي ..!!
سؤال أخلاقي ولكنه ليس سؤالاً منطقياً
وهو ليس منطقياً، لأنه ليس واقعياً، فالإنسان مجبول على صفتي الرغبة والرهبة، فهو يرغب ولذا يعمر الكون، ودافع رغبته مبني على حبه للغنى المادي وهي رغبة عميقة لا يمكن تصور الإنسان دونها، وفي الوقت ذاته فلدى الإنسان دوماً منظومةٌ من التخوفات التي يجمعها مصطلح الرهبة، فهو يتخوف من زوال ثروته أو من تناقص صحته، ولذا تتعزز الرغبة عنده لمزيد من التحصين الذاتي عبر قدراته على مواجهة الرهبة، وأبرز علاماتها في ثقافتنا المعاصرة فكرة التأمين على النفس وعلى الممتلكات ومن ضمن الممتلكات أن يؤمن على مصدر ثرائه، فالرياضي يؤمن على قدميه مثلاً إن كان لاعب كرة قدم لأن قدميه هما مصدر مجده ومصدر ثروته والتأمين يضمن له الجانب المادي مما يطمئنه على مصيره، وتتكرر الفكرة في كل شؤون البشر لدرجة التأمين على التأمين نفسه وشركات التأمين لا تأمن على نفسها من خسارة تدفعها للإفلاس، ولذا تدفع أموالاً لشركة أكبر منها لكي تمنحها تأميناً مادياً لو حدث ما يوجب ذلك.
وفي المقابل، فإن الغنى المعنوي الذي هو قيمة علمية وأخلاقية يظل عرضةً للظروف ولا يخفف الرهبة هنا سوى الاستغناء بالجاه العلمي الذي يشكل حصانةً نفسية وروحيةً لأن المعرفة قوةٌ وإن كانت ليست ثراءً فالفيلسوف مثلاً ليس مليارديراً ولكنه كبيرٌ في مقامه المعنوي.
ورغم هذه المفاضلة المغرية، لكن الإنسان لن يخلو من رغبة ما تتسلط عليه، فالمتنبي شاعر عبقري وهو يعي ذلك، ولكنه مع هذه العبقرية ظل يجري وراء رغباته التي ظلت تتأبى عليه، وقد كشف عن حدة رغبته وغلبتها عليه ببيته:
أبا المسك هل في الكأس شيءٌ أناله
فإني أغني منذ حينٍ وتشرب
فهو يتمنى رشفةً من الكأس تروي عطشه الرغبوي وهو عطش أوقعه بمغبات الرهبة ففر هارباً من ملاحقة كافور لينتهي به المطاف بغربة ونفي مطلق في خراسان (غريب الوجه واليد واللسان)، كل هذا وهو الذي يعرفه الليل والسيف والقرطاس والقلم، ولكن هذا المجد لم ينفعه بشيء حين أرداه فاتك الأسدي مضرجاً بدمائه ليخرجه من الليل ومن السيف ومن القرطاس والقلم ويحيله للذاكرة الثقافية التي ظلت تمجد شاعراً لم يذق طعم الراحة لأن عبقريته التي أشبعت روحه وعقله حتى رأى في نفسه الكمال وكل غيره مجرد (زعنفة)، ولكن هذا كله مجدٌ مؤجل لم يستمتع به الشاعر في حياته ولكن الثقافة استمتعت ببطل تراجيدي عاش شقياً ومات عبقرياً، وهذا ملخص مركز لحال الإنسان بين الرغبة والرهبة والغنى والعوز، الغنى من جهة والعوز من جهة أخرى. وكل غنى معنوي يقابله عوز مادي، وكذلك فكل غنى مادي يقابله عوز وجداني أو روحي.