طرح جورج بوش الأب نظرية (النظام العالمي الجديد) بعد سقوط جدار برلين عام 1989، ولم يكن ذاك مجرد جدار سقط، بل سقطت معه إمبراطورية المعسكر الشيوعي. وأصبحت مقولة النظام العالمي نظريةً غيّرت نظام الوعود الانتخابية الديمقراطية في أميركا وفي الغرب عامةً، من نظام وعود للشعب بالرفاهية المعاشية إلى التبشير بالسوق الحرة وازدهار رأس المال وحريته، مع غفلة تامة عن حال الشعب أو ازدهار الشعب. وهذه حالة تحوُّل في المزاوجة ما بين الاشتراكية والرأسمالية التي كانت تسود في بريطانيا مثلاً، ما بين حزبي المحافظين والعمال، حين كان الفكر الرأسمالي يخاف من اكتساح الفكر الاشتراكي، فكان يبذل جهوداً خاصةً لإرضاء احتياجات الناس في السكن والصحة والتعليم، وكانت هذه المنافسة مزدهرةً بين الحزبين لإرضاء تطلعات الناخبين إلى أن ظهر تيار الليبرالية الجديدة، وتفضيله الرأسمالية الحرة والسوق الحرة، ومع مارجريت ثاتشر تقوَّت الليبرالية الجديدة والتفكير الرأسمالي وإيثاره على أي معنى اشتراكي، فهي التي منعت الحليب المجاني عن أطفال المدارس حين كانت وزيرةً للتعليم، قبل أن تصل إلى كرسي الحكم، ومنذ تلك الحقبة والفكر الحزبي يسير وفق شروط السوق ورأس المال، وقد ظهرت دراسات في بريطانيا تكشف عن أرقام مخيفة حول تدهور ظروف المجتمع، حسب إحصاء يكشف أن 20% في بريطانيا هبطوا إلى تحت خط الفقر، وأن أربعة عشر مليوناً يعيشون على بنوك الطعام وقسائم الصدقة الحكومية، وبعضهم يبيع القسائم ليشتري مخدرات، ثم يتسول ليعوض عوزه وحاجته للطعام. وهذه حالة انحدار مجتمعي من زمن الرخاء المعاشي ومسؤولية الدولة إلى ترك الناس يموتون لأنهم لا يستحقون الحياة، ورغم أن هذه الجملة لم تطلق صراحةً لكنها حقيقةٌ واقعةٌ في مجتمعات كانت ديموقراطيةً شعبيةً رغم رأسماليتها، فتحوّلت إلى مجتمع مقسوم بين طبقةٍ متنعمةٍ وطبقةٍ تحت خط الفقر وتلاشى الوسط، وهذا ما أدى إلى عزوف مخيف عن صناديق الانتخابات، لأن التنافس على البرلمان لا يعني أي وعد يجعل الناس يراهنون على أي من المرشحين، حتى إن محاولات حزب العمال الأخيرة بإصلاح الوضع تؤول دوماً للفشل، وهذا تحقيق لنبوءة مارجريت ثاتشر بحزب العمال الجديد، وهو مصطلح ساخر يعني زوال حزب العمال الحقيقي إلى حزب يطلق فقط الوعود، ولكن الجميع يعلم أنه لن يُنفذ. وهنا تغيّر نظام الوعود وأصبحت نظاماً في القنوط، وتلك حال الديمقراطية اليوم لأنها وقعت فريسةً للنظام الذي لم يعُد جديداً كما سماه بوش الأب، بل أصبح النظام المترسخ الذي يمنح الحياة للمال دون اهتمام بحال الناس، مما يجعل مصطلح الديمقراطية مسخاً دلالياً لا يعني أي مدلول ذي فائدة للجياع والكادحين.
والإشكال يتعمّق في المعاني الفلسفية والثقافية إذ لم تعُد عقلانيةً ولا منطقيةً وإنما استقطابية حادة بين يمين متشدّد ويسار متطرف، وتلاشى الوسط كطبقة اقتصادية وكفكر معتدل. وكل تطرف من هذا يدفع الآخر المقابل إلى مزيد تطرف، مما يهدد فكرة الديمقراطية من أساسها، ويلغي عنها أي مزية تفاوضية أو إنسانية.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض