الأحد 16 نوفمبر 2025 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: النجومية والقلعة الثقافية

د. عبدالله الغذامي
1 نوفمبر 2025 01:01

النجومية معنى ثقافي ثابت ومتموج في آن فهو يلوح كفرصة متاحة، ولكن لمن وكيف ولماذا وما الأثر الناجم عن النجومية وهل الأثر سابقٌ عليها بحيث يحركها أم هي صناعة الأثر؟ وهذه أسئلة تقتضي الوقوف عندها والأهم هنا هو أن النجومية حال ثقافية وليست حالةً هشة أو عديمة المعنى، ووصفها بالتفاهة كما هو شائعٌ يحرمنا من قراءة هذه الظاهرة التي يؤكدها وجودها الطاغي والبارز، ولذا فهي ليست للاستسهال والسخرية، فهي أولاً مسألةً ذوقية، وهذا سبب انتشارها، مما يعني أنها تنطوي على إغراء ما، وهي ليست هشةً لا للنجم ولا لغيره ونحن لا نعرف النجم إلا حين يصبح نجماً أي حين تحدث لشخص أو مجموعة ما.
والثقافة في جوهرها معنى سلوكيًّ لا يقف عند الخاص بل يعمّ كافة حالات التفاعل، ومن هنا فالنجومية هي إحدى العلامات الثقافية وربما هي أقوى العلامات من حيث الظهور السريع، وهي إما فرديةً على نجم محدد وهذا معنى يتصل بالذائقة الجمعية وتقبلها للنجم، وتكشّف ذلك مع الظهور المبكر لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ظهور الراديو ونستطيع استعادة ذاكرتنا مع أم كلثوم وكيف طغى صيتها عبر المذياع، حيث كان العرب كل العرب يسهرون أمام الراديو لسماع أغنية جديدة لأم كلثوم، وكنت من هؤلاء حيث كنت أتناول القهوة في الليل لأظل يقظاً لسماع جديدها، ومرة غلبني النوم وأحسست بالقهر صباح الغد، حين ضجت الأحاديث عن أغنيتها الجديدة، وأنا (مثل الأطرش في الزفة) محتقراً نفسي حيث حرمتني من مشاركة التحدث عن جديد أم كلثوم الضارب على كل خبر غيره، وعادةً يحدث خلافٌ في تذوق جديد أم كلثوم، لأن ذواكرنا مربوطةٌ مع تعودنا على قديمها، ولذا احتجنا مثلاً لبعض الوقت لتذوق أغنية (فكروني)، وهي أول تجربة لها ولسميعتها مع محمد عبدالوهاب، وأخذنا وقتاً لننسجم مع الجو الجديد الذي أدخلتنا فيه أم كلثوم عام 1966.
هذه حالةٌ من حالات النجومية مع نجم محدد يظل نجماً دون أن يفقد مقامه في الذوق، حتى مع تغير مرحلي سينتهي بتوافق يحمي مقام النجم في الذاكرة، وهذا يصح مع حالة المتنبي بوصفه نجماً ثقافياً راسخاً، ليس عبر ديوان شعره، وإنما هي نجومية تأتي عبر اقتباسات محددة لأبياتٍ للمتنبي تنفصل عن مجمل شعره، وتهرب من الديوان لتسكن ألسنة الناس بإجماعٍ لم يحظ بمثله ودرجته أي شاعر عربي آخر من حيث رسوخ المتنبي الفذ.
ولكن ومع انفجار وسائل التواصل انفجرت النجومية بصيغة مختلفة جذرياً، فقد ظهرت نجومية متموجة ما إن يتصدرها نجمٌ معينٌ حتى تنحسر عنه لا لتسقط النجومية ذاتها بل ليسقط النجم المعين ويحل محله نجمٌ آخر، وهو تموج يشترك فيه مجموعة نجومٍ يجري لهم كلهم نهوض وسقوط في تتابع مستمر، وهذا يعني أن في الثقافة رغبات لم تشبعها النصوص المؤسسية وتطلب بديلاً يرضي متعتها، ويظل البديل في حالة تموج مستمر لا يركد إلا ليثور ثانيةً، وهذا تحولٌ حرٌّ وغير موجه، وكلٌّ يتمناه ويطرق أضواءه لكنه مراوغٌ ويختار بدوافع غير مقيدة بأي شرط سابق، لأنه تحوّل مربوط بذائقة حرة تدور في فضاء الثقافة، وحرية هذا التحرك هي التي تربك النقد المؤسسي، الذي يبادر للنكران وقد يلجأ لبكائيات وكأنه ينعى مظلوميته الثقافية أو ذائقته التي يركن إليها، وهذا ما يجعل النقد المؤسسي يعجز عن قراءة الظواهر وكيف تتقلب الأذواق وحالات التقبل والرفض.
وهذا يكشف ما قلته من قبل في كتابي الثقافة التلفزيونية حول (سقوط النخبة وبروز الشعبي) وليس الشعبوي، وبينهما فرق جذري فالشعبي فطري وتلقائي، بينما الشعبوي طبقي وعنصري ومخطط بوعي انحيازي، ولا شك أن المتعة قيمةٌ بمثل ما العقلنة قيمة، غير أن النجومية ليست عقلنةً، وإنما هي متعةٌ، والمتعة تصدر عن ذائقة حرة وغير مشروطة وتتصرف وكأنها حالةٌ جنونية.
أما وظيفة الناقد هنا فليست بفرض قواعده، وإنما بتتبع تحولات المعني والذوق وصناعة الأثر وبيدِ من، ولا بد من التساؤل هنا عن حال النخبوية وهل مازالت قيمةً أم أصبحت حالة عمى ثقافي تغلق الرؤية. ومن ثمَّ فالنجومية اليوم علامةٌ ثقافية تكشف تغيرات معنى الإمتاع ووظيفة المتعة في حياة البشر، وحالات الإقبال والعزوف وهما أخطر صيغ نظرية التلقي.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2025©