المؤسسات الخيرية.. والتبرعات بالعملات المشفرة
بعد سنوات من إنشاء مشروع غير تقليدي لا تفهمه حقاً قطاعاتٌ واسعة من السكان، أخذ المستثمرون الذين يمتلكون عملات مشفرة مثل بيتكوين وإيثريوم يرون طريقاً نحو القبول عبر التبرع الخيري. في حالات كثيرة، يجلس هؤلاء المستثمرون على عملات قد تصل إلى أضعاف المبلغ المتبرع به بألف مرة – وهو ما قد يؤدي إلى أفكار خيرية، سواء بدافع الشكر أو الشعور بالذنب أو فوائد استخدام مثل هذه التبرعات لدفع التكاليف الضريبية لمكاسب هائلة.
وإذا كان قبول تبرعات العملة المشفرة لا يجعل فكرة المال القائم على تكنولوجيا الـ«بلوكتشين» أبسط وأكثر قابلية للفهم، فإنه يقتضي انضمام المؤسسات الخيرية إلى عالم العملات المشفرة. بدأت تبرعات العملات المشفرة بشكل فعلي عام 2017، عندما استخدم متبرعٌ مجهول 5104 عملة بيتكوين لإنشاء صندوق «الباينابل فاند» (أو «صندوق الأناناس»). الصندوق أنفق مبلغاً بالبيتكوين تزيد قيمته على 55 مليون دولار على 60 مؤسسة خيرية. وذهبت تلك النقود، التي تعادل قيمتها أكثر من 200 مليون دولار بمعدلات الصرف الحالية، إلى عدد من القضايا مثل المساعدات الدولية، وحماية البيئة على الصعيد المحلي، وأبحاث إطالة أمد الحياة.
وفي مايو الماضي، تلقت جامعة بنسلفانيا تبرعاً مجهولاً بقيمة 5 ملايين دولار من البيتكوين لفائدة مركزها الخاص بالابتكار في المالية بكلية وارتون. ومن جانبها، أعلنت «ذا غيفين بلوك»، وهي شركة توفّر دعماً في الجوانب الحاسوبية لأكثر من ألف مؤسسة خيرية تقبل تبرعات بالعملات المشفرة، عن تبرعات العام الماضي تعادل قيمتها نحو 70 مليون دولار، مقارنة مع 4.2 مليون دولار في 2020، أي بمعدل نمو أعلى بكثير من الزيادة في سعر العملة نفسها. والواقع أن تبرعات العملات المشفرة قد لا تضاهي المليارات التي يُتبرع بها من خلال أدوات مالية مثل الأسهم والسندات، غير أن صعودها المفاجئ كان مذهلاً.
غير أنه على الرغم من السرعة التي صعدت بها العملات المشفرة إلى المشهد، إلا أن مقاومة شديدة ظهرت داخل بعض المؤسسات الخيرية، حيث ينظر المقاومون إلى العملات الرقمية على أنها مخطط مفترس تُستخدم فيه أموال المستثمرين الأحدث من أجل إغناء المستثمرين الأسبق والأغنى. وعلاوة على ذلك، يشير أولئك المنتقدون إلى اعتماد العملات المشفرة على كميات هائلة من القوة الحاسوبية والكهرباء للتحقق من الصفقات، ما يساهم في الاحتباس الحراري. ومن هذا المنظور، فإن قبول تبرع بالعملة المشفرة يعني، في نظر البعض، دعم نظام مالي جديد أكثر حيفا وتدميرا من النظام السابق.
في 2019، كانت منظمة «غرينبيس» من بين المنظمات الأولى التي رفضت مثل هذه التبرعات باعتبارها منافية لرسالتها. وفي يناير الماضي، أعلنت مؤسسة «موزيلا»، التي تدعم متصفح الإنترنت «فايرفوكس» مفتوح المصدر، وقف تبرعات العملات المشفرة ريثما تنتهي من تقييم «تأثيرها على التزاماتنا في مكافحة تغير المناخ». وأقدمت المؤسسة على هذه الخطوة بعد أن تلقت تغريدة عادية من حساب رسمي لـ«موزيلا» تُشجع على التبرعات بالعملات المشفرة رداً قويا مليئاً بالألفاظ النابية من جيمي زاوينسكي، أحد مؤسسي «موزيلا». تغريدة زاوينسكي، التي نالت الإعجاب أكثر من 20 ألف مرة، كانت واضحة وصريحة: «يجب أن يشعر كل من يشارك في هذا المشروع بالخجل الشديد من هذا القرار، بالشراكة مع محترفي النصب والاحتيال الذي يحرقون الكوكب».
ما هو واضح أن هذه التبرعات يُنظر إليها من قبل كل الأطراف باعتبارها فرصة لإصدار حكم حول قيمة العملات المشفرة. فالمتبرع لكلية وارتون ذهب إلى حد التشديد على أن تحتفظ جامعة بنسلفانيا ببعض البيتكوين. وقد وافقت الجامعة وما زالت تمتلك عملات مشفرة، ولكن شريطة أن يضمن المتبرع حصول كلية وارتون في نهاية المطاف على 5 ملايين دولار بغض النظر عن سعر الصرف الذي سيكون عليه البيتكوين. وفي معظم الحالات، تقوم المؤسسات الخيرية بتحويل العملات الرقمية إلى دولارات على الفور لتفادي تقلب قيمة العملات المشفرة، غير أن حتى عملية تحويل سريعة تتطلب انخراطاً مع نظام العملات المشفرة. وعلى افتراض أن محامياً بحث كل الجوانب القانونية وأوصى بالمدة التي ينبغي فيها لمؤسسة خيرية أن تحتفظ بالعملات قبل بيعها، فإن المؤسسة الخيرية في حاجة أيضاً إلى اختيار طريقة لاستبدال العملات بدولارات وإنشاء حساب لديه سوق أو خدمة مثل الـ«غيفين بلوك».
وإضافة على ذلك، فإن المؤسسات الخيرية سترغب من دون شك في نشر الخبر بين أنصارها والإعلان عن أن التبرعات بالعملات المشفرة مرحَّب بها. وهذه العملية هي التي تجعل المؤسسات الخيرية منخرطة ولها مصلحة، إذا جاز التعبير، في النظام، وحيث قد يأتي الرفض والمقاومة بسرعة. عندما كانت العملات المشفرة أقل قيمة بكثير، كانت المؤسسات الخيرية تجد سهولة أكبر في البقاء بمنأى عن النظام. ففي 2011، كانت «مؤسسة الحدود الإلكترونية»، أو الـ«إي. إي. إف.»، وهي منظمة يوجد مقرها في سان فرانسيسكو تدافع عن حقوق مستخدمي الإنترنت، من بين أولى المنظمات التي تقبل تبرعات بالبيتكوين. وقتئذ، حصلت على 3500 قطعة بتكوين، تعادل قيمتها 5 دولار تقريباً، ولكنها سرعان ما أخذت تتساءل إن كان امتلاكها معقولاً ومنطقياً.
وفي إعلان صدر في شهر يونيو، قالت المنظمة إن هناك القليل من الوضوح القانوني بخصوص البيتكوين، ما يجعل المنظمة لا تشعر بالراحة في استبدال التبرع بدولارات. واليوم، يقول كرت أوبسال، المستشار العام للمؤسسة، بما يشبه الندم، تلك العملات كانت ستبلغ قيمتها 100 مليون دولار في الصرف. وفي الأثناء، غيّرت الـ«إي. إي. إف.» موقفها بشأن تبرعات العملات المشفرة، لافتةً إلى وضوح قانوني تحقق حديثاً وطرق أكثر موثوقية لتحويل العملات إلى نقد بشكل فوري. وعندما قام صندوق الـ«باينابل فاند» بالتبرع، كانت الـ«إي. إي. إف.» ضمن قائمة المستفيدين، وتلقت تبرعاً بقيمة مليون دولار. وهذه المرة، قامت المؤسسة بصرفه.
*كاتب متخصص في التكنولوجيات الرقمية.
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»