أشرنا سابقاً إلى أن قرار الولايات المتحدة وبعض الدول المستهلكة للنفط باستخدام الخزين النفطي للتأثير في أسعار البترول والتعويض عن الإنتاج الروسي، ستكون له نتائج مؤقتة في تخفيض أسعار النفط، إذ جاءت النتائج العكسية أسرع مما كان متوقعاً. فبعد إعلان واشنطن عن ضخ مليون برميل يومياً من احتياطيها الاستراتيجي، تراجعت أسعارُ النفط بنسبة 9% لتتدنى إلى 104 دولارات للبرميل، إلا أنه بمجرد أن تراجع هذا الاحتياطي بمقدار 8 ملايين برميل، وفق إدارة معلومات الطاقة الأميركية، عاودت أسعارُ النفط الارتفاعَ لتصل 108 دولارات للبرميل نهاية الأسبوع الماضي، وذلك قبل أن تتراجع مجدداً بدايةَ الأسبوع الجاري تحت تأثير الإغلاقات المؤقتة لمدينة شنغهاي الصينية بسبب تفشي فيروس «كوفيد-19»، حيث ستعاود الأسعارُ الارتفاعَ مرةً أخرى.
وفي حالة استمرار عمليات السحب من الاحتياطي النفطي في الولايات المتحدة والبلدان المتضامنة مع هذا التوجه، فان إعادة تعبئة المخزون ستؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار لتفرز نتائجَ عكسية تماماً، وهو ما دفع بنك الاستثمار الأميركي «جي بي مورغان» إلى التحذير من ارتفاع الأسعار إلى 185 دولاراً للبرميل، في الوقت الذي لن يتضرر إنتاج النفط الروسي كثيراً بسبب استمرار صادرات النفط والغاز الروسية، حيث أعلنت كل من الصين والهند عن عدم انضمامهما للمقاطعة. فمنذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا اشترت الهند 15 مليون برميل من النفط الروسي، ودفعت بالدولار باستخدام القنوات المصرفية العادية، وكذلك تفعل معظم دول الاتحاد الأوروبي، وبالأخص الكبيرة منها.
وفي نفس الوقت تخطط الحكومة الهندية لشراء أكبر قدر من النفط الروسي من خلال عقود طويلة الأجل، خصوصاً وأنها تحصل على خصومات جيدة، حيث توجد توجهات مشابهة في الصين وبعض الدول الآسيوية التي ترى في ذلك فرصةً مناسبةً لتلبية احتياجاتها النفطية بأسعار أقل، مما يعرِّض العقوبات للفشل، كما هو متوقع، إذ صرَّحت وزيرة الخزانة الأميركية «جانيت يلين»، مؤخراً، بأن «فرض الحظر الأوروبي على واردات النفط والغاز الروسية قد تكون له عواقب اقتصادية غير مقصودة»، مضيفةً أن حظراً كهذا «قد يتسبب في النهاية بضرر أكثر مما قد ينفع».
ونظراً لأهمية النفط والغاز ودورهما في الاقتصاد العالمي، فإن وزير الخزانة الأميركية محقة في مخاوفها، فالاقتصاد العالمي بمجمله يعاني من تداعيات الأزمة الأوكرانية، حيث خفض البنك الدولي توقعاتِه للنمو العالمي في عام 2022 من 4.1% إلى 3.2%، محذِّراً في الوقت نفسه من أزمة ديون ناجمة عن ارتفاع هذه الديون بصورة كبيرة.
وذلك يعني أن كافة دول العالم تقريباً ستعاني من تداعيات الأزمة، حيث سيتفاوت حجم هذه التداعيات بين ارتفاعات كبيرة في الأسعار ومعدلات عالية للتضخم وإمكانية حدوث مجاعات في بعض البلدان الفقيرة التي تعتمد على واردات القمح الروسي والأوكراني والمعرّضة للانخفاض وربما التوقف، مما يعني أن هذه العقوبات المفروضة على روسيا تختلف تماماً عن كل ما سبقها من العقوبات التي تلت الحرب العالمية الثانية، فهي لا تطال الدولةَ المعنيةَ فحسب، وإنما تطال كافةَ دول العالم، بما فيها شعوب تلك الدول التي تبنّت العقوبات. وهذه مفارقةٌ تتطلَّب إعادة النظر، خصوصاً وأن عمليات التصعيد من عقوبات وعقوبات مضادة مستمرة ولا توجد آفاق حتى الآن للحد منها.
وبما أن الأمر كذلك، بمعنى أن الجميع يتعرض لخسائر باهظة جراء استمرار هذه الحرب، فإنه لا بد من ترجيح كفة التعقل وبذل المزيد من الجهود لإيجاد حل سياسي من خلال تكثيف العمل الدبلوماسي، والابتعاد عن التصعيد الذي سيؤدي إلى مزيد من الخسائر البشرية والمادية، وبالأخص في أوكرانيا، حيث إن هناك الآن اتجاهين متنازعين في الغرب وفي العالم عامة، الأول يدعو للتصعيد غير مبالٍ للنتائج الكارثية، والآخر يدعو للتهدئة والبحث عن حلول سلمية لإنهاء الأزمة، وبالتالي تجنيب العالَم المزيدَ من الأزمات الناجمة عن نقص السلع الأساسية والتدهور الاقتصادي. 

خبير ومستشار اقتصادي