نظم المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية النسخة العاشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية في موضوع «العالم العربي أمام التحديات العالمية الجديدة»، وذلك في مدينة مراكش المغربية، وقد أجاد مدير المعهد الأستاذ توفيق ملين في تنظيم هذه الدورة واختيار محاورها ومواضيعها، وشارك فيها، كما هو دأب هذه المنتديات، صفوة من الاستراتيجيين من دول الخليج والمغرب ومصر والأردن. وفي ورقتي التي كانت بعنوان «كيف يمكن للدول العربية تكييف علاقاتها مع القوى العظمى في ظل مناخ استقطابي أكثر فأكثر؟»، أكدت بأن الخرائط التقليدية للجيوبوليتيك قد تغيرت. ويخطئ الكثيرون عندما ينظرون بنوع من الحنين إلى العالم القديم وصراعاته الكلاسيكية، ويقرون على أنها حبيسة المنطق الترابي أو السياسي أو الاستراتيجي، في حين أن العالَم أضحى متحركاً، ومحدداته متخطية لحدود الدولة -السيادة، وفي تنظيم مستمر تحدده التحركات والسلوكات الاجتماعية حول تحديات معظمها اقتصادية اجتماعية. ومع حرب أوكرانيا أصبحنا في حقبة جديدة، وستؤدي هزيمة روسيا لأوكرانيا إلى تغيرات جيوسياسية واسعة في أوروبا، وفي أهداف حلف «الناتو» والنظام العالمي ككل. ولربما في بداية حقبة قد تسيطر خلالها موازين قوة جديدة في جنوب شرق آسيا، وتتكون ثلاث كتل في العالم، «أميركية وروسية وصينية». ومع ذلك فقد تعم الفوضى والصراع العالميين، حيث ستتكيف كل منطقة من مناطق العالم بشكل متزعزع مع التكوين الجديد للقوة.
وخلافاً للظواهر الصراعية التي كانت تطبع فترة الحرب الباردة والعقد الأول الذي تلاها، لم تعد القوة العسكرية الغربية هي المحدد في إخماد صراعات دول الجنوب، فمهما وصلت القوة العسكرية لدولة بحجم الولايات المتحدة، فإنه في ظل العولمة ومحددات الفترة الراهنة، لا يمكن لهذه القوة تحقيق الأهداف التقليدية التي كانت تحكم الصراعات القديمة. لذلك بدأنا نشاهد مظاهر شتى لوهن الدول القوية ومظاهر أخرى لقوة الدول الضعيفة على الساحة الدولية، وهن بدأ يطبع الدول العظمى مرده إلى الأزمات المتتالية التي تعرفها محددات هذا النظام الجديد المطبوع باللايقين والمجهول في عالم غير منظم.
ومع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدأت تظهر للعالم وبخاصة الأوروبيين قيمة السلم والسلام، وقيمة بعض الدول المصدرة للقمح والغاز والبترول، وقيمة بعض المناطق الجغرافية كالبحر الأسود الذي يُعد شرياناً رئيسياً لحركة السلع عند مفترق طرق أوروبا وآسيا، إذ تطل عليه ست دول، وهو يمثل أهمية بالغة للعديد من البلدان الأخرى في مناطق بعيدة، بسبب تجارة الطاقة والصلب والمنتجات الزراعية. كما تمر منتجات النفط الخام والمكرر من روسيا وأذربيجان وكازاخستان عبر موانئ التصدير على الحافة الشرقية للبحر الأسود.
وفي هذا الخضم، فإن الحديث عن كيفية تكييف الدول العربية علاقاتها مع القوى العظمى في ظل مناخ استقطابي أكثر فأكثر هو من الصعوبة بمكان، أولاً للاختلاف السياسي الواضح بين الدول العربية، وثانياً لتباين اقتصاداتها، وثالثاً لهشاشة المنظومة العربية، ورابعاً لغياب دول محورية فيها، وخامساً لغلبة المصالح القطْرية الداخلية لكل دولة على المصالح القومية المشتركة، وسادساً لأن مشكلات العرب كانت وما تزال تتمثل في تلك الإشكالية المستمرة القائمة من جانب على تواجدهم في موقع حساس، بمعطياته الجغرافية والاقتصادية والدينية، ومن جانب آخر على تواضع عناصر القوة التي بحوزتهم للدفاع عن ذلك الموقع ولتعظيم الفوائد منه، وسابعاً لأن تغير قواعد اللعب السياسي على المستوى الدولي لم يعد في صالح التفرقة والتشرذم، وثامناً لأن بعض الحلول من قبيل عدم التدخل والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل ومأسسة قاعدة مفادها بأن أي نجاح تحققه دولة لا يعني بالضرورة فشل دولة أخرى بل ينبغي وضعه دائماً في إطار «رابح-رابح».
وقد ختمت كلامي بالحديث عن ضرورة قيام دول عربية محورية على شاكلة فرنسا وألمانيا في الاتحاد الأوروبي، من أجل تحريك العمل العربي المشترك وقيادة السفينة العربية في عالم مطبوع بخاصيات أربع: الغموض والتوجس والمجهول واللايقين.

*أكاديمي مغربي