يقول تشارلز سمنر:«أعطوني المال الذي تم إنفاقه في الحروب وسوف أكسو كل رجل وكل امرأة وكل طفل في العالم بملابس من التي يفتخر بها الملوك والملكات.. سأبني مدرسةً في كل واد على كامل الأرض.. سأتوج كلّ تلة بمكان عبادة مكرّس للسلام. أما فرانسوا فينلون فيقول:«كل الحروب هي حروب أهلية لأن جميع البشر إخوة».
مثل قصة البيضة والدجاجة، أيهما جاء أولاً، يُثار الجدل حول الحرب الروسية الأوكرانية، وهل روسيا قررت منذ زمن بعيد إعلان الحرب على أوكرانيا واحتلاها، من دون أي أسباب سوى المطامع والمصالح، أم أن حلف الناتو بقيادة أميركية قرر منذ زمن بعيد محاصرة روسيا وحدودها وثقافتها وشعبها بضم كل الدول التي تحيط بها إلى الحلف، أو أن الناتو تمكن من جرجرة أوكرانيا بوسائل الإغواء والإغراء وكانت تلك رغبة لدى القيادة الأوكرانية بالاقتراب قدر المستطاع من أوروبا و«الناتو»؟!؟
التاريخ الذي نعرفه، ولم يكتبه أحد من الأطراف الثلاثة: روسيا، أوكرانيا والناتو، هو أن أوكرانيا كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي سابقاً، وما جرى في العام 2014 بعد عزل الرئيس الأوكراني «فيكتور يانوكوفيتش» والاحتجاجات في الميدان الأوروبي، وخرق«مذكرة بودابست للضمانات الأمنية»، قد أدى إلى انطلاق عمليات عسكرية روسية في الأراضي الأوكرانية، ثم تصويت سكان جزيرة القرم بالموافقة على الانضمام إلى روسيا الاتحادية، وتصاعد المطالبات في دونباس بعدها للانفصال عن اوكرانيا، وإعلان استقلال جمهورية دونيتسك الشعبية وجمهورية لوغانسك الشعبية في العام 2014، والذي أفضى أيضاً إلى توترات داخلية في أوكرانيا تدعو للتدخل الروسي، والتي استمرت في الأعوام التالية: 2015 و2016 و2018.
خلال ذلك، كانت معظم التصريحات الأميركية، ومسؤولي الناتو، تشي بـ«صبّ الزيت على النار»، ولم يتحدث أحد عن أهمية تنفيذ معاهدة بودابست التي وقعت في ديسمبر 1994 بين روسيا والولايات المتحدة وأوكرانيا والمملكة المتحدة والتي تنص على نزع السلاح النووي الأوكراني والضمانات الأمنية لاستقلال أوكرانيا، بل انطلق الحديث عن ضرورة ضم أوكرانيا إلى الناتو، وبدأت ماكينة الإعلام الغربية تنشر التصريحات السياسية التي تثير المخاوف الأمنية الروسية تجاه اوكرانيا، حسب ما كنّا نتابع يوما بيوم.
في نهاية العام 2021 بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يتحدث عن المطالب الأمنية التي يمكنها تهدئة المخاوف الروسية المتعلقة بزحف الناتو عبر أوكرانيا، وكان العالم يتوقع من الولايات المتحدة أن تبادر إلى عقد اجتماع طارئ لاستيعاب المطالب الروسية وإيجاد الحلول السلمية المقنعة، وبدل ذلك، بدت التصريحات الغربية تشير في معظمها إلى استحالة تلبية المطالب الروسية ووصفها بالمستحيلة ! ما حدا بالرئيس الروسي حينها أن يقول:«دعونا نتخيل أن أوكرانيا عضو في حلف شمال الأطلسي.. هل من المفترض أن نخوض حرباً مع الحلف؟ هل فكر أحد في ذلك؟ يبدو أنه لا أحد فعل ذلك».
استمر هذا، لغاية فبراير 2022، ولم يسمع أحد من الولايات المتحدة أو دول «الناتو» بالرغبة الشديدة للحوار أو الاجتماع أو التهدئة، وكل ما كان يصدر حينها هي تهديدات بالعقوبات على روسيا، وكأن المسألة متعمدة لـ«صب النفط على النار»، هذه المرة، ونذكر أنه في ختام محادثات أجراها الرئيس بوتين مع رئيس الوزراء الهنغاري، فيكتور أوربان، في الكرملين، أول فبراير 2022 أكدّ بوتين:«أن موسكو لم تتلق جوابا مناسبا من واشنطن وبروكسل على المطالب الروسية المحورية الثلاثة بعدم تمدد الناتو شرقاً، والتخلي عن نشر أسلحة هجومية قرب حدود روسيا، وإعادة البنية العسكرية للحلف في أوروبا إلى خطوط عام 1997»، وأضاف:«وعدونا بعدم تقدم الناتو بوصة واحدة نحو الشرق لكنهم خدعونا وتصرفوا بشكل آخر»، وكذلك قال:«لا بد من إيجاد أسلوب لضمان مصالح وأمن جميع الأطراف أي أوكرانيا والدول الأوروبية وروسيا، لكن ذلك يمكن فعله فقط في حال التعامل الجدي والأخذ بالمقترحات التي قدمناها للضمانات الأمنية».
هل نبدو منحازين؟ بالطبع لا، فهذه وقائع تابعها ويتابعها العالم أجمع لحظة بلحظة، وإذا كنا سننحاز بأي شكل فسيكون انحيازنا إلى الشعب الأوكراني والمدنيين الأبرياء الذين قتلوا أو هربوا في هذه الحرب غير المفهومة وغير المبررة بين الطرفين الرئيسيين، وهما «الناتو» و«روسيا»، باعتبار أن أوكرانيا قد تم جرجرتها لا محالة، ولم يكن بامكانها تجنب أن تكون ساحة الحرب لطرفين عنيدين. 

* لواء ركن طيار متقاعد