الفيضانات وتغير المناخ
أدّت موجة حر شديد في جنوب آسيا وعبر المحيط الهندي هذا الصيف إلى ذوبان الأنهر الجليدية في جبال الهمالايا بمعدلات متسارعة. وتسببت موجة الحر تلك في ارتفاع حرارة مياه البحر إلى درجات أعلى، مما زاد من حجم تساقطات الأمطار الموسمية السنوية عبر المنطقة.
وكان من عواقب ذلك فيضانات شديدة على نحو استثنائي ضربت باكستان، وبدرجة أقل الهند وبنجلاديش. وهو ما حدا بأمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى القول صراحة: «إن الشعب الباكستاني يواجه أمطار مانسون تتعاطى المنشطات». وتشير بعض التقديرات إلى أن ثلث مساحة البلاد تعرضت للفيضانات في مرحلة ما. وشملت الخسائر دمار 325 ألف منزل، ونفوق 750 ألف رأس من الماشية، وتلف مليوني فدان من الحقول بمحاصيلها. وحتى الآن، سُجلت 1200 وفاة، ولكن العدد سيرتفع من دون شك. كما أن تكاليف التعافي الاقتصادية تفوق ميزانية باكستان، وهذه الأخيرة ستحتاج إلى مساعدة كبير من المجتمع الدولي.
ومن الواضح أن تغير المناخ كان عاملاً مهماً ساهم في هذه الظروف المناخية الشديدة، وباكستان لديها أسباب للقول إنها كبلد ليست مسؤولة عن انبعاثات الكربون العالمية، التي باتت تتسبب على نحو متزايد في فصول الصيف الحارة، وفترات الجفاف، وارتفاع مستويات المياه. لهذا السبب، ينبغي على البلدان المسؤولة عن أعلى مستويات من انبعاثات الكربون أن تتحمل عبء تعويض الأضرار والخسائر التي تسبب فيها تغير المناخ. غير أن هناك عوامل أخرى ينبغي أخذها في عين الاعتبار أيضاً من قبيل سوء الإدارة، والفساد، وسوء التخطيط... وكلها عوامل ساهمت في المأساة بدرجات متفاوتة. والجدير بالذكر هنا أن الأمطار الموسمية تأتي كل سنة إلى جنوب آسيا، وقد كانت هناك عدة تحذيرات تحذر من خطورة بناء المنازل والفنادق في المناطق المعرضة للفيضانات. هذا الأمر، إلى جانب أدلة على رداءة جودة البناء، ساهم في الخسائر الكبيرة التي لحقت بالمباني والطرق والجسور وخطوط السكك الحديدية والبنية التحتية الخاصة بالطاقة.
وعلى بعد آلاف الأميال من باكستان، أدى وصول موسم الأعاصير السنوي إلى ظروف خطيرة بشكل استثنائي وخسائر في البنى التحتية، ولاسيما في بويرتو ريكو وكوبا وجنوب غرب فلوريدا وكارولاينا الشمالية وكارولاينا الجنوبية. الحدث الأخطر كان إعصار إيان الذي ترك كوبا من دون كهرباء لعدة أيام وتسبب في فوضى واضطرابات في المناطق المزدهرة وذات الشعبية الكبيرة على ساحل خليج فلوريدا وجزر الحاجز البحرية. والمناطق الأكثر تضرراً كانت أجزاء من مدينة فورت ماير وجزيرة سانيبل، التي تشتهر بجمالها الطبيعي البكر، ومنازلها الفاخرة، ومحمياتها الحيوانية. كما تسبب إعصار إيان في أضرار مكلفة في كل من ولايتي كارولاينا الجنوبية والشمالية على الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
الخسائر المالية لهذا الإعصار شُرع في إحصائها وجردها للتو، ولكنها يمكن أن تكون الأكثر كلفة على الإطلاق في تاريخ الولايات المتحدة، وستكون لها تداعيات كبيرة على مالكي المنازل، وخاصة في فلوريدا، وشركات التأمين، ودافع الضرائب الأميركي، في نهاية المطاف. والحال أن شركات التأمين تعاني أصلاً من ضغط شديد بسبب العواصف السابقة، وخاصة الفيضانات. وتشير بعض التقديرات الأولية إلى أن تكاليف إعادة البناء يمكن أن تتجاوز 250 مليار دولار، وأن أسعار التأمين في فلوريدا يمكن أن ترتفع بـ40 في المئة.
جزء من المشكلة هو أنه منذ ظهور وباء كوفيد انتقل عدد متزايد من الناس للعيش في فلوريدا فراراً من المدن الشمالية وسعياً وراء طقس أدفأ، إلى جانب عوامل محفزة أخرى مثل دفع ضرائب أقل على الدخل. وكانت شركات القطاع العقاري تتوق لاستقبال الأغنياء المتوافدين على الولاية والذين يريدون العيش بجانب البحر بعد تقاعدهم. ولكن التكاليف الخفية، وخاصة التأمين، أخذت تتكشف، ولاسيما بالنظر إلى أن فلوريدا معرّضة على نحو فريد من نوعه لارتفاع مستويات البحر الذي يُعد أمراً حتمياً ولا مفر منه حتى في حال تم فرض تدابير صارمة لتقليص انبعاثات الكربون. ذلك أن فلوريدا تكاد تخلو من أي أرض مرتفعة، وأعلى نقطة فيها هي «بريتون هيل» التي ترتفع بـ105 أمتار عن مستوى سطح البحر! ولا شك أن بناء أبنية جديدة يمكن أن يخفّف ويحدّ من بعض التهديدات المحدقة بالولاية إذا كانت البنايات قائمة على ركائز وأعمدة من النوع القادر على الصمود أمام مياه الفيضانات، ولكن ذلك مكلف، وغير ممكن بكل بساطة في الكثير من المناطق بمدن مثل ميامي حيث تعيش أسر منخفضة الدخل في مناطق هشة على نحو استثنائي.
وخلاصة القول إن تغير المناخ، وعلى غرار وباء كوفيد، لا يلقي بالاً للحدود بين البلدان أو إلى ثراء منطقة من المناطق أو فقرها. ولا شك أن دروس باكستان وفلوريدا تنطبق على كل العالم وسيكون من الخطأ تجاهلها!
*مدير«البرامج الاستراتيجية» بمركز ناشيونال إنترست- واشنطن