من العبارات الاجتماعية الأكثر تداولاً بين الصينيين عبارة «شي كيو»، ومعناها «امتصاص المرارة». وتعود قصة هذه العبارة التي تُعد العمود الفقري للشخصية الصينية إلى الملك «غوجيارت» الذي حكم في القرن الخامس قبل الميلاد.

فقد قام غوجيارت بحملة عسكرية توسعية، إلا أنه مُني بالفشل. ومن أجل معاقبة نفسه، صنع فراشاً من عيدان الخشب (كالمسامير) بدلاً من فراشه الملكي الوثير، وعلّق فوق رأسه «مرَّارة» كان يمتص شيئاً من عصيرها المرّ قبل النوم عقاباً لنفسه. وتعبّر اللغة الصينية عن ذلك بعبارة «شي كيو». وهي العبارة التي أصبحت بالممارسة وليس بالرواية فقط، رمزاً للإرادة الصينية على مقاومة الصعاب وقهر الذات. في عام 1842 فرض الإنجليز على الصينيين، ملكاً وشعباً، تشريعاً باستخدام المخدرات، حتى أصبح تناولها جزءاً من العادات اليومية.

وبذلك تمّت السيطرة الأجنبية على الصين لسنوات طويلة. ثم احتلت اليابان أجزاء واسعة من شمال الصين وعيّنت لها ملكاً. واستمر ذلك حتى تمكّن الصينيون من استعادة الشمال المحتل، ومن ثم إعادة الدولة من خلال ثقافة «شي كيو». وكانت الثقافة الكونفوشية الصينية تضع العائلة قبل الدولة، والقيم المعنوية فوق المادية.. لكن هذه الثقافة لم تعش طويلاً. فقد نجحت الصين في تحويل الثقافة الكونفوشية إلى «إرث تاريخي»، واعتمدت مبدأ «شي كيو»، وتبنّت أفكاراً ودروساً من الغرب، مكّنتها من إعادة اكتشاف ذاتها ومن ثم من اقتحام المستقبل وعالَم الحداثة.

ومن القيم التي اعتمدتها، المبادئ الدستورية (كانغ يووي)، وحتى النظريات الداروينية (يان فو)، ومبادئ الحكم الفردي (لانغ كيشاو)، وكذلك مبادئ الجمهورية (صن يات صن). حتى أن الزعيم الصيني «تشاي كاي تشك» الذي قاد حركة الانفصال في تايوان بدعم أميركي، اعتمد المبادئ الجمهورية والمبادئ اللينينية، وحتى الفاشية الموسولينية.

لكن كل هذه المبادئ المستوردة انتهت في الحسابات الصينية الأخيرة إلى لا شيء، وعادت الصين إلى ذاتها من خلال قيمها الذاتية. ثم جاء مهندس النهضة الحديثة «دنغ شياوينغ» وفتح أبواب الازدهار الذي تنعم به الصين اليوم والذي يدهش العالَمَ. لم يعد أصدقاء الصين وحتى أعداؤها يهتمّون بالسؤال: كيف وصلت إلى ما وصلت إليه؟ ولكنهم يهتمون بالسؤال الذي يعتبرونه أكثر أهميةً وهو «كيف ستتصرف الصين بعد أن وصلت إلى ما وصلت إليه؟».

ساعدت «دنغ» على رسم خريطة المستقبل، ظروفُ ما بعد الثورة التي فجرها «ماوتسي تونغ»، فأطلق حركة التغيير والتطوير في بلد ممزق وفقير، لكن على قاعدة «شي كيو»، والتي من دونها ما كان يمكن طيّ صفحة ثورة ماوتسي تونغ الصعبة.. وبناء صرح الصين الحديثة. بعد الحرب العالمية الثانية تركزت أنظار العالم على ألمانيا واليابان. فالدولتان خرجتا من الحرب أنقاضاً، ليس مادياً فقط، وإنما معنوياً أيضاً. ولذلك اعتبر نجاحهما في إعادة بناء الذات، معجزة في حد ذاتها.

غير أن المعاهدات الدولية تفرض سقفاً منخفضاً لمعجزة كل من اليابان وألمانيا. وهو ما لا ينطبق على الصين التي تحوّلت خلال عقود قليلة إلى واحدة من الدول الكبرى علمياً واقتصادياً وعسكرياً. ومن هنا السؤال: كيف ستتصرف على المسرح العالمي بهذه القدرات المستجدة وبهذه الثقافة الموروثة؟ انطلاقاً من الإجابة على هذا السؤال، تتكشف ملامح النظام العالمي الجديد.

*كاتب لبناني