سباق بين مبادرة بكين والهجوم المضاد
تمرّ حرب أوكرانيا بمرحلة وقت مستقطع، لكنّ عنصراً جديداً ومقلقاً طرأ على مجرياتها، متمثّلاً بهجمات الصواريخ والطائرات المسيّرة التي ترجمت إعلامياً بمعادلة «موسكو مقابل كييف»، إذ لم تعد أوكرانيا تتردد في مهاجمة الأراضي الروسية، ليس فقط على الحدود بل وصولاً إلى مهاجمة العاصمة. ويشير حاكم مقاطعة بيلغورود المتاخمة لأراضي أوكرانيا إلى أنها تعيش حال حربٍ فعلية (قصف مدفعي وتوغلّ مجموعات مقاتلة.. إلخ)، ويطالب بضمّ منطقة خاركيف لإبعاد مصدر الهجمات التي تتعرّض لها المقاطعة.
مناطق أخرى شهدت تفجيرات، بينها مصافي النفط في كراسنودار، بالإضافة إلى استهداف مستمرّ لشبه جزيرة القرم. كلّ ذلك لا يفرض واقعاً ميدانياً جديداً، بقدر ما يشعل الجدلَ بين موسكو وعواصم الغرب حول مصداقية «الضوابط» التي وضعتها للقيادة الأوكرانية. لكن عودة روسيا إلى قصف كييف بكثافة استدعت إدانة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي صمت إزاء الردود الأوكرانية داخل روسيا، بل امتنع عن إدانة استهداف موسكو، أما واشنطن فأبدت عدم موافقتها عليه.
ركّز القصف الروسي بالصواريخ والمسيّرات على كييف ومرافق عسكرية في محيطها، وبعض مراكز صنع القرار، وقد جاء في إطار استراتيجية إجهاض استباقي للهجوم الأوكراني المضاد لاستعادة أراضٍ أصبحت تحت سيطرة روسيا وحلفائها الأوكرانيين. وقد تأخر ذلك الهجوم لاستكمال الاستعدادات، ومنها خصوصاً إنهاء تدريب الجنود الأوكرانيين على المدرّعات التي قدّمها «الناتو»، فيما لا تزال التدريبات على طائرات «اف 16» جارية على نطاق واسع. ويراد لهذه التجهيزات الغربية أن تقيم توازناً مع الأسلحة الجديدة التي دفعت بها روسيا إلى الجبهة منذ أوائل هذه السنة وجرّبت بعضاً منها. وقد تأكّد الخبراء العسكريون من أن معركة باخموت التي استغرقت عاماً ونيّفاً كانت عملياً لكسب الوقت لمصلحة الهجوم الأوكراني المضاد. لكن الجانب الروسي أراد هذه المدينة سواء لرمزيتها أو لأنها مفتاح استراتيجي لمناطق أخرى حيوية قد يبني على وجوده فيها.
كما أنه استفاد من طول فترة المعركة لتحسين أوضاع المناطق الأربع التي ضمها رسمياً أواخر العام الماضي. وإذ يُلاحظ أن أي تحركات هجومية روسية لم تسجّل طوال الشهور الأخيرة، فإن المراقبين يقرؤون ذلك على أنه «رسالة» إلى «الناتو» والصين وكل الدول التي التزمت الحيادَ بأن موسكو تعتبر الخطوطَ الحاليةَ هي الحدود التي لن تتخلّى عنها في أي مفاوضات محتملة. لا يعترف الحلفاء الغربيون بهذه الحدود ويدعمون الهجومَ المضاد الذي يرمي إلى تغييرها، أما كييف فحدّدت له هدفاً هو «تحرير الأراضي المحتلة» كشرط لأي تفاوض على معاهدة سلام.
ورغم أن حديث التفاوض ليس متداولاً هذه الأيام، فإن ديبلوماسيين عديدين يشيرون إلى أن آمالاً ما تزال معقودةً على الاتصالات التي تجريها بكين بصمت وبعيداً عن الأضواء، بل يعتقدون أن ثمة سباقاً يجري بين الهجوم المضاد والمبادرة الصينية. فالأوروبيون يرغبون في معرفة مدى تقدّمها، مراهنين عليها سرّاً في بحثهم اليومي عن نهاية للحرب، لكنهم في غياب أي معطى جديد لا يجدون بديلاً للحفاظ على تضامنهم مع أوكرانيا.
وإذ تواصل بكين حشدَ الدعم الدولي لمبادرتها، فإن الولايات المتحدة لا تتوانى عن عرقلتها بتوتير العلاقة مع الصين، سواء في ملفات اقتصادية عدة أو حتى بتحركات جوية في المجال الصيني الحيوي. والمؤكّد أن واشنطن أحبطت وتحبط أي تحرك دبلوماسي يهدف لإنهاء الحرب، ما لم يكن صادراً عنها أو ملتزماً شروطها، لكن ماذا لو لم يأتِ الهجوم الأوكراني المضاد بالنتائج التي تتوخّاها؟
*كاتب ومحلل سياسي -لندن