تشهد إسرائيل حالة جديدة ومثيرة في نمط ممارستها للسياسة في الداخل، وذلك بعد سنوات طويلة من اعتماد إسرائيل على مراكزها وبيوت خبرتها السياسية والاستراتيجية التي تتمثل في مركز «هرتسلسيا» و«بيجين السادات»، و«اسحق رابين» و«الأمن القومي»، وغيرها من المراكز الوازنة في إسرائيل، والتي صاغت الكثير من المخططات السياسية. هذه المراكز كانت وراء طرح أفكار مثل الانسحاب من قطاع غزة بمقتضي خطة فصل أحادي الجانب إلى اقتراح تقاسم الأراضي بين مصر وإسرائيل، إضافة إلى عشرات من مشروعات السلام الاقتصادي التي روجت لها الحكومات الإسرائيلية منذ مطلع التسعينات، وتعمل على تدوير أفكارها في الوقت الراهن.
أما الآن، فالأمر يتغير لإعطاء مزيد من الأدوار للخبراء العاملين في مجالات عدة، ومنها شركات السياسة الدولية، وعلى رأسها «منتدى كوهلت»، وهو منتدى منبثق من شركة دولية كبيرة تملك علاقات وثيقة مع عدد كبير من أعضاء الكنيست الحاليين والسابقين، وأعضاؤه هم من صاغوا خطة الإصلاح القضائي التي تسببت، ولا تزال في حالة من الاحتقان السياسي والأمني بدليل استمرار التظاهرات للأسبوع 21 على التوالي، تُطالب بوقف إجراءات ما يسمى «الإصلاح القضائي».
السؤال المطروح: هل باتت إسرائيل تعتمد علي بيوت وشركات دولية، وأغلبها أميركياً في صنع سياستها، وهل يريد رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أن يقول رسالة للداخل ممثلاً في بيوت الخبرة الإسرائيلية التي تطرح الرؤى، وتقدم المقاربات السياسية والاستراتيجية، وتضم عشرات من المسؤولين السابقين في مجال الأمن والاستراتيجية والسياسة، بأن الأمر تغير، وأنه بات يعتمد على شركات السياسة الأميركية.
والواقع يشير إلى تغير لأوضاع في العالم تجاه هذا التطور، وليس في إسرائيل وحدها، ومثلما لدى بعض الدول شركات كبرى تحارب، وتدخل المواجهات والصراعات، وتوظف في الحروب، وتضم خبرات كبيرة سابقة، فلا مانع أن تكون هناك شركات سياسية كبيرة تضم في هيكلها سياسيين سابقين من دول كبرى لرسم سياسات وتوجهات الدول، وتضع استراتيجيات كبرى للتعامل، وهو ما يجري في إسرائيل، ويفسر حالة الصراع الراهنة في المجتمع بل، وإبداء بعض الأجهزة البيروقراطية تحفظات حقيقية في إطار ما يجري.
هذا التطور الجاري يراه بعض العسكريين في إسرائيل، وكبار الدبلوماسيين، سابقة خطيرة، حيث الحديث عن الأمن القومي والسياسات الوطنية، وتوجهات إسرائيل الأمنية والاستخباراتية، والتي يجب أن توضع في إطارها، وتتجاوز ما هو قائم، خاصة أن ما تكشف عن دور الشركة الأميركية «منتدى كوهلت» في صنع السياسات الإسرائيلية ما زال غير واضح، وهل تستعين الحكومة الراهنة بها من وراء ظهر الوزارات المعنية والمتخصصة؟ والتأكيد سيكون لدى أجهزة الأمن والمعلومات ومجمع الاستخبارات، تحفظات حقيقية، ومواقف غير مؤيدة لما يجري، خاصة أن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة قد يقوم بهذا الدور.
الخطورة في استعانة إسرائيل بشركات السياسة الكبرى في الولايات المتحدة تحديداً. هذا النوع من الشركات يشير إلى أن العالم يتغير، ومن شركات الأمن والاستراتجية والتأمين إلى شركات وبيوت خبرة أجنبية تعمل في مجال السياسة، ويحدث هذا في وقت يجري فيه تطوير المهام والأهداف داخل إسرائيل، ومتزامناً مع حالة تذمر داخلي ليس في ملف «الإصلاح القضائي»، بل في ملفات مثل تأزم الوضع الاقتصادي، وتضارب سياسات مواجهة التضخم، وتحويل مخططات التعليم والصحة للإنفاق العسكري، وهو ما يشير إلى حالة من الغليان المكتوم.
ولهذا تخوف رئيس الوزراء نتنياهو من تداعيات ما يجري، وعدم ثقته في ما يُطرح رغم أنه يسعى لبناء شراكة حزبية شكلية، ويسعى لجمع المعارضة إلى صفه في الأزمات المعلنة مثلما جرى في أزمة الحدود مؤخراً مع مصر، حيث دعا زعيم المعارضة «يائير لابيد» للمشاركة في سلسلة الاجتماعات الأمنية، للرد على ما يجري في الشارع الإسرائيلي من نفي الآخر. ويتحرك رئيس الوزراء نتنياهو، ومن ورائه تكتل «ليكود» لإدارة السياسة والاقتصاد عبر شركات السياسة الأميركية المهمة، والتي ترسم أيضاً، أو على الأقل تضع بعض السيناريوهات للتعامل خارج الإطار التقليدي لصنع السياسات.
وفي المجمل، فإن كثيراً من السياسات الإسرائيلية المطروحة في الوقت الراهن داخل إسرائيل - وفي إطار علاقاتها بالدول في الإقليم بل وتجاه العالم - بات يرسمها خبراء واستشاريون أميركيون يعملون في شركات السياسة والاستراتيجية، وهو ما سيؤثر لا محالة على إنتاج مؤسسات الدولة الأصيلة، والتي ترى أن الأمن والاستخبارات والتزامات الأمن القومي يجب أن تبقي بمنأى عن أية تدخلات داعمة من داخل إسرائيل وخارجها برغم التسليم بالشراكة الكبرى مع الولايات المتحدة.
*كاتب متخصص في الشؤون الاستراتيجية