متغيرات «شرق المتوسط»
الخروج من صندوق «الوضع الراهن» هو الحل الوحيد لتجنب مزيد من الخراب العبثي في منطقة الشرق الأوسط، وهو خراب ممتد وشامل وفي حال استمراره ستكوي نارُه أجيالاً قادمةً. وحتى التسمية التي فشلت طوال عقود في تحديد واضح لجغرافيا الإقليم، إذ كانت تتمدد شرقاً حتى باكستان أحياناً، وغرباً لتشمل شمال أفريقيا، أو تضيق لتحاول باحتواء مضغوط تحديد الشرق الأوسط حيث جغرافيا «وتاريخ» بؤر الأزمات العنقودية المتوالدة والمتوارثة دوماً. إنها تسمية فقدت الكثير من دلالتها وربما صارت منتهية الصلاحية.
ولعل الذين تبنوا التسمية الاصطلاحية الأخرى، وهي «شرق المتوسط»، كانوا أكثر دقة في تحديد هذه المنطقة، لأن مفاتيح العلاقات الدولية تغيرت، ومنظومة تحالفات الإقليم من هلاله الخصيب (مشرقه العربي سابقاً) ودول مجلس التعاون الخليجي امتداداً نحو مصر غرباً وهضبة الأناضول شمالاً.. قررت تغيير أوانيها المستطرقة لتأخذ شكلاً جديداً مختلفاً يحاول تحدث لغة الزمن الراهن بتغيير الوضع الراهن.
وقبل الاستطراد، أوضّح أن أزماتنا جميعها، والتي تجلت في الأزمة السورية، وقبلها بقليل تلك التراجيديا العراقية، ثم أزمة اليمن الذي اكتشف أنه أضاع سعادتَه منذ زمن طويل، والصراع العربي الإسرائيلي الذي انتهى إلى صراع متعدد المستويات بين دولة احتلال «بقوميتين فعلياً» مع مجموع فصائل متناحرة وفاسدة.. كل ذلك كشف أن هناك قوميات عديدة مختلفة ومتباينة بلغات مختلفة وأديان وطوائف بعضها كان مضطهداً تحت شعارات السيادة القومية المتوهَّمة.
كانت تلك الجغرافيا على الدوام حالة قلق متواتر وتوتر مزمن، وما تزال حتى اليوم حيث انتهى الكلُّ في منتصف عنق الزجاجة الضيق الذي إما أن يخرج منه الجميع نحو فضاءات خارج تلك الزجاجة التاريخية أو السقوط مرة أخرى في قاعها من جديد. اللغة الجديدة التي يحاول الجميع تعويمها كلغة تفاهم مشتركة ومفهومة لا التباسات فيها، هي لغة التعاون الإقليمي ووضع كل جهود التنمية ضمن مسار تعاوني مشترك وبتقسيم وظيفي يناسب الجميع.
طبعاً، لن نتوقع خروجاً سلساً وسهلاً من الماضي، لكن اللغة الجديدة قادرة حتى الآن على فرض نفسها وبتمدد يتسع يوماً بعد آخر، والحاجة إلى متطلبات العيش في ظل جائحة وأزمة غذاء عالمية ونقص في الطاقة التي تحرك كل شيء، مع إدراك ضمني عام بأن ثورة تكنولوجيا المعرفة قادرة على تجاوز الحدود والجغرافيا لتسهم في نشر المفاهيم الجذرية الجديدة، كي تحل محلَّ لغة الماضي القريب وتنسلخ منه للدخول في عالم جديد بمنظومة علاقات جديدة ومختلفة بالكامل. الإقليم يتغير كما أن العالَم نفسَه دخل مراحلَه النهائيةَ في صيغة علاقاته الدولية الجديدة.
و«شرق المتوسط» تسمية ما تزال قاصرةً لكنها الأكثر قرباً من واقع الحال والأدق بكثير من مفهوم «الشرق الأوسط» الذي لم يعد له معنى في كوكب نتفاجأ أن لا وسط فيه بسبب طبيعته الكروية. أما من لا يستوعب كل تلك المتغيرات فهو بلا شك سيظل رهين وهم الأرض المسطحة؛ يبحث عن مركزيته التي لم توجد يوماً، ولن يكون له مكان في هذا العالم الجديد.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا