حول «تربية الحقد» والآثار الذاكرية
قبل أيام أعدت مشاهدة فيلم الممثل العبقري دانيال داي لويس «There Will Be Blood»، والذي نال عليه الأوسكار عام 2007، وأعادني لنظرية كنت قد ركزت عليها وطرحتها وشرحتها مراراً حول عوالم الحقد، ذلك أن البطل حين اختلف مع القس وضربه بيده قال عبارة هزت المشاهد «لقد ربّيت حقدي». إنها تربية الحقد التي تمضغ الذكريات باستمرار.
هنا فكرة تربية الحقد الارتكاسية. ومن أهم البحوث التي تتحدث عن فلسفة نيتشه باللغة العربية كتاب محمد أندلسي، «نيتشه، وسياسة الفلسفة»، فهو كتاب عميق وفك الكثير من العقد والأفهام التي شابت فلسفة «فريدريك نيتشه»، ولعل الكتاب أضخم من أن يتم عرضه في مقالة سريعة، لكن الذي لفت نظري في الكتاب بعد التجاوز الذي قام به «نيتشه»، حيث ساهم في نقل الفلسفة من مسار جامد إلى مسارات وفضاءات أخرى.
ولعل من أبرز إنجازات «نيتشه» المعرفية افتتاح عهد التمييز بين «الوعي، واللاوعي»، وعبر هذا التمييز يقوم «نيتشه» بدراسة «الحقد» دراسة علمية معرفية خارج كل التناولات التي سبقتْه في تناول الحقد، ولعلي هنا أختصر شرح محمد أندلسي لرؤية نيتشه حول «الحقد، الوعي الشقي».
سبق نيتشه سيغموند فرويد في التفريق بين الوعي واللاوعي في دراسة الجهاز النفسي للإنسان، حيث تتحدد منظومة اللاوعي بالآثار الذاكرية الدائمة، فاللاوعي عبارة عن حالة القيام باجترار الآثار المتلقاة، وإلى جانب هذه المنظومة التي تهيمن عليها الذاكرة توجد منظومة أخرى للقوى يكفّ فيها رد الفعل عن أن يكون رد فعلٍ على الآثار، ليصبح رد فعلٍ على الإثارة الراهنة وصور الأشياء المباشرة. وذلك يعني أن ضعف ملَكة النسيان يجعل الإثارة تختلط بأثرها في اللاوعي، مما يجعل رد الفعل على الآثار يكتسح الوعي فيصبح شيئاً محسوساً. القوى الارتكاسية تتغلب على القوى الفاعلة، حين يحل الأثر محل الإثارة داخل الجهاز النفسي، ويحل ردّ الفعل محل الفعل ويتغلب عليه، وهذا هو معنى الحقد.
يعني ما مضى، أن هناك ذاكرتين: ذاكرة اللاوعي، هي ذاكرة الحقد وعرَضها الأساسي هو العجز عن النسيان، الذي هو لَكة ارتجاعية وارتكاسية، بينما الذاكرة الثانية، هي ذاكرة الوعي تتجلى كملَكة للوعد تقوم على الكلام. يصوّر «نيتشه» ذاكرة الحقد على أنها هضم لا ينتهي، يقول «نيتشه»: (إن الروح الألمانية، هي عسر هضم، إنها لا تتوصل لإنهاء شيء، كل الأفكار المسبقة تأتي من الأمعاء)، تلك الذاكرة السامة والمعوية، وهي التي يرمز لها «نيتشه» بالعنكبوت وتعني روح الانتقام. وإذا كان نموذج السيد والنبل يتحدد بملكة النسيان، وبالقدرة على تفعيل ردود الفعل، فإن النموذج الارتكاسي (نموذج العبد) يتحدد بتضخم الذاكرة وبقوة الحقد وهو يتسم بالعجز عن التقدير والمحبة.
ثم تأتي السلبية في الحقد، حيث تظهر السعادة على صورة مخدر وعطالة واسترخاء للروح والجسد، أي باختصار تظهر في صورةٍ سلبية، والسلبية هنا هي انتصار لرد الفعل على الفعل في اللحظة التي يصبح فيها ضغينة، فالإنسان الواقع تحت الحقد لا يحب، ولكنه يريد أن يكون محبوباً، فهو يقدر كل شيء تبعاً للفائدة والمكسب، وعلى حد وصف نيتشه: «يمتدح القريب النزاهة، لأنه يحصل منها على مغنمه». ولهذا تتمة.
*كاتب سعودي