يسميها البعض القارة العجوز، ويسميها آخرون حديقة العالم، وبين هذين التوصيفين تقبع أوروبا تحت ضغوط اقتصادية وسياسية كبيرة، وما إن تهدأ الأوضاع في دولة من دولها حتى تضطرب في أخرى.. وهكذا دواليك! في مرحلة مفصلية، وبعد فترة خانقة جراء أزمة كورونا التي خيمت على العالم بأسره، تعاني دول أوروبا من أزمات تتضخم يوماً بعد آخر وتنكشف على إثرها خطوط الصدع السياسية والاقتصادية العميقة، والتي فاقمتها الحرب الروسية الأوكرانية وتقاطعها مع استراتيجيات التنمية داخل هذه الدول وعسكرة مواردها دعماً لقضية غير واضحة المعالم ومستقبل قائم على فكرة دوغمائية اللاعبُ فيها قوتان كبريان تتوسطهما «حديقة العالم»!

تواجه فرنسا اليوم أزمة داخلية كبيرة أشعل شرارتَها مقتلُ مراهق من أصل مهاجر على يد شرطي فرنسي، لتتولد عن ذلك أزمةٌ داخليةٌ يتابعها العالم بقلق شديد، كما تعاني من أزمات تراكمية بسبب الاحتجاجات المستمرة، ليس من جانب المهاجرين فقط بل أيضاً من جانب جماعات الفوضى والمعترضين على أوضاعهم المعيشية من أصحاب المهن المتدنية والعمال، علاوة على احتجاجات المناهضين للمهاجرين وأنشطة المهتمين بالبيئة.. وغير ذلك من قوى وأنشطة الاحتجاج الكثيرة.

ولأن الصورة النمطية لدى المهاجر، عربياً كان أم غيره، هي غطرسة البرجوازية الأوروبية وتفاقم النزعة العنصرية في أوساطها تحت عبارات «البربر الجدد»، والدعوة لإيقاظ شارل مارتن ومعركة بواتييه.. إلخ، لتحجيم المهجرين!

ومن الدعوات العنصرية التي لم تأتِ كلها من فراغ، لعبت تجاوزات المهاجرين دوراً رئيساً في اندلاع العنف والمواجهات، ليصبحوا اليوم بؤرة الفوضى الدائرة في شوارع باريس وعمليات النهب والسطو بحجج الظلم والنبذ الاجتماعي الذي يواجهونه من قبل المؤسسات المدنية التي يزعمون أنها تدعم هذا الظلم!

والواقع أن فرنسا تمر بفترة عصيبة تتطلب جملة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية لاحتواء أي إخلال بأمنها ولإفشال أي محاولة لاستغلال ثغرات سياستها الداخلية، وفي ما عدا ذلك ففرنسا اليوم هي فرنسا الأمس والغد، أي بلد الأنوار والتنوير والثقافة ومساحات الضوء والجمال في العالم، وهي بوصلة السائح وملجأ المهاجر.. وكل ما تمر به من قلق داخلي سوف يمضي كما مضت أزمات سابقة أقسى مما تعيشه اليوم.

ولا مجال لانتظار الأسوأ، ولا مجال لمن يربط ما يحدث اليوم من فوضى بمخرجات «فرنسا الاستعمارية»، فتعاقب الأجيال وولادة مجتمعات تلو الأخرى لا يسوّغ توجيهَ الأخطاء التاريخية لجيل دون آخر أو الزعم بأن الموقف من المهاجرين مرتبط بالاستعمار والحروب التاريخية.. والحق أن للصورة جانباً آخر هو تعاقب الحكومات في فرنسا وإرساء قاعدتي الحرية والديمقراطية في أرجاء البلاد وتطبيقها على الكل دون تمييز!

وبعيداً عن كل هذه التفاصيل، فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا: ما الذي يضطر مهاجراً باحثاً عن الأمن والحرية والكرامة أن يفتعل هذه المخاطر ويجلبها إلى البلد الذي آواه ووفّر احتياجاتِه؟ هل هو عشق الفوضى أم طبيعة البشر أم حالة يتفرد بها المهاجر الذي ذاق تلك الويلات؟ والسؤال الأهم: ما الذي يضطر من ولد وعاش على أرض النور والجمال ولا يعرف وطناً غيرها أن يشارك في هذه الفوضى!

*كاتبة سعودية