ما أطلق عليه المؤرخ الأميركي ريتشارد هوفستاتر «أسلوب جنون العظمة» في السياسة الأميركية لم يعد ظاهرة هامشية، فقد أصبحت نظريات المؤامرة الغريبة الآن سائدة في اليمين الأميركي. وأحد مظاهر هذا الاضطراب هو الرفض المستمر للبيانات الاقتصادية الإيجابية بحجة أنها زائفة حين يكون الرئيس الأميركي من الحزب الديمقراطي.

وفي سنوات حكم أوباما، كان هناك فصيل كبير من «ملاك حقيقة التضخم» الذين أصروا على أن الإنفاق على حساب زيادة العجز في الميزانية والتوسع النقدي لا بد أن يتسببا في تضخم جامح.

وكانوا يرون أنه إذا لم تطابق الأرقام الرسمية هذا التوقع، فذلك لا لشيء إلا لأن الحكومة كانت تلفق السجلات. ومع الانخفاض السريع للتضخم العام الماضي، شهدنا عودة ظهور ملاك حقيقة التضخم. لكن التطور الأكثر بروزاً كان ظهور ما يمكن أن نطلق عليهم ملاك حقيقة الركود وهم فصيل كبير محبط فيما يبدو بسبب رفض اقتصاد بايدن، على الأقل حتى الآن، ليقحموا الركود الذي دأبوا على توقعه أو أصروا على أنه بدأ بالفعل. والآن، هناك بعض الاختلافات الاجتماعية بين ملاك حقيقة التضخم القدامى وملاك حقيقة الركود الجدد.

فقد كانت المجموعة السابقة تميل إلى أن تكون رجعية من المدرسة القديمة التي ما زالت تتوق للعودة إلى معيار غطاء الذهب. ويهيمن على المجموعة الجديدة إخوان التكنولوجيا، وهم المليارديرات الذين يتخيلون أنفسهم يركزون على المستقبل بدلاً من ماضي الذهب، ومن المرجح أن يكونوا من المؤمنين بالعملات المشفرة أكثر من إيمانهم بالذهب. والواقع أن أبرز ملاك حقيقة الركود في الوقت الحالي ليس سوى إيلون ماسك. لكن ملاك الحقيقة الجديدة هم أكثر ذكاءً من ملاك الحقيقة القدامى.

وربما يتوقع المرء أن يكون أصحاب المليارات في مجال التكنولوجيا على دراية جيدة بالعالم، فبوسع شخص مثل ماسك، إذا أراد، أن يقيم بسهولة قسم أبحاث كبيراً لتثقيفه الشخصي. فالميزانية السنوية لمكتب إحصاءات العمل بكامله أقل من 700 مليون دولار. لكنهم غالباً ما يكونوا، في الممارسة العملية، فريسة سهلة للمخادعين والمحتالين.

وسأتحدث لاحقاً عن السبب. لكن أولاً، دعنا نسأل كيف نعرف سبب أن ملاك حقيقة الركود مخطئون. ليس الأمر كما لو أن الحكومات لا تزيف البيانات الاقتصادية أبداً، وإذا أصبحت أميركا في نهاية المطاف سلطوية، وهذا محتمل ومثير للقلق، فقد يحدث هذا هنا أيضاً. لكن في الوقت الحالي، ما زالت الوكالات الإحصائية الأميركية على درجة عالية من الاحترافية. فهذه الوكالات يعمل بها موظفون يقودهم إلى حد كبير مدنيون يحرصون كثيراً على سمعة نزاهتهم.

ويمكننا أن نكون على يقين تام بأنه إذا كان المعينون السياسيون يلفقون السجلات، فسنسمع عن ذلك من كثيرين من المبلغين عن المخالفات. والبيانات الرسمية ما زالت هي أفضل طريقة لتتبع مسار الاقتصاد الأميركي، فلا توجد منظمة خاصة يمكنها حالياً مطابقة موارد وخبرات مكتب إحصاءات العمل أو مكتب التحليل الاقتصادي. وهناك أيضاً مصادر كثيرة مستقلة تكشف عن الحالة الاقتصادية للبلاد.

وجميع هذه المصادر تؤكد بشكل أو بآخر ما تقوله البيانات الرسمية. ولننظر مثلاً إلى أن مسحاً أجراه «الاتحاد الوطني للأعمال المستقلة» حول الشركات الصغيرة ما زال يُظهر أن كثيراً منها تعتزم توسيع القوى العاملة لديها. أو لنأخذ في الاعتبار استبيانات مديري المشتريات التي غالباً ما تُستخدم كمؤشرات إنذار مبكر للتغير الاقتصادي.

وتبدو هذه الاستطلاعات أقل تفضيلاً من البيانات الرسمية أو مؤشرات الأعمال الصغيرة، لكنها ما زالت لا تشير إلى أي شيء يشبه الركود. والمطالبات المتعلقة بالتأمين ضد البطالة التي تمثل البيانات التي جمعتها الولايات، وليس الحكومة الاتحادية، تشير أيضاً إلى سوق عمل ما زال قوياً.

وبما أن حقيقة التضخم، كما قلت، تشهد كذلك نوعاً من الانتعاش، فمن الجدير بالذكر أن الدراسات الاستقصائية الخاصة تؤكد أيضاً التقارير الرسمية عن الانخفاض السريع في التضخم. فلماذا نرى إخوان التكنولوجيا ينغمسون في نظريات المؤامرة، ويستشهدون غالباً بحسابات عشوائية على تويتر لتسويغ آرائهم؟ والجواب، في اعتقادي، هو أن أصحاب المليارات في مجال التكنولوجيا معرضون بشكل خاص للاعتقاد بأنهم بارعون بشكل فريد، وقادرون على إتقان أي موضوع على الفور، من كوفيد إلى الحرب في أوكرانيا.

وبوسعهم تحمل كلفة توظيف خبراء لإطلاعهم على الشؤون العالمية، لكن لن يفلح هذا إلا إذا كانوا على استعداد للانصات حين يخبرهم خبراء بأشياء لا يريدون سماعها. ومن ثم، فما يتعين على المرء معرفته هو أن البيانات الاقتصادية ليست مزيفة. وقد يحدث ركود في النهاية، لكنه لا يحدث الآن. والرجال الأثرياء الذين يعتقدون أنهم يعرفون أفضل هم في الواقع أقل دراية من القارئ العادي لصحيفة «نيويورك تايمز»، على سبيل المثال، لأنهم لا يحاولون معرفة ما لا يعرفونه، ولا أحد في وضع يُسمح له بتنويرهم.

*أكاديمي أميركي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد.

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»