الصراعات القادمة في البحر الأسود
بصرف النظر عن ما يمكن أن تفضي إليه التطورات في اتفاقية الحبوب، وتباينات الموقف الروسي مع المواقف الدولية والأمم المتحدة، فإن ثمة تطورات مفصلية يمكن أن تعلن عن نفسها في الفترة المقبلة، وترتبط بتطور المواجهات العسكرية المحتملة في منطقة البحر الأسود، ومناطق التماس المجاورة، والتي ما تزال ترتبط بمصالح الدول الكبرى مع وجود حشود عسكرية متعددة قد تؤدي لوقوع مواجهة بالخطأ، أو من خلال ما يجري من ترتيبات أمنية وعسكرية ترتبط بحسابات القوى الكبرى، حيث يظل البحر الأسود موقعًا للمنافسة الجيوستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، ومسرحًا ذا أولوية بالنسبة للولايات المتحدة، وحلف «الناتو» خاصة مع دخول المواجهات الروسية الأوكرانية مساحة جديدة من المواجهات المستجدة والطارئة.
فالشاهد أن ما سيجري سينارويهات سيرتبط فعلىا بما أعلنه وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، من سحب الضمانات الأمنية وسلامة الملاحة، وإعادة قيام منطقة خطرة بشكل مؤقت في شمال غرب البحر الأسود، وحل مركز التنسيق المشترك في إسطنبول والمتعلق بإدارة وتنفيذ اتفاقية الحبوب، وهو ما ردت عليه بعض الدول الأعضاء بمجموعة العشرين كنموذج لما سيجري من احتمالات حيث تم التنديد بانسحاب روسيا من اتفاق التصدير الآمن للحبوب من أوكرانيا، وذلك في ظل تزايد المخاوف من تأثيراتها المتوقعة في أكثر الدول فقراً من ارتفاع أسعار الأغذية.
عقب القرار الروسي اتهمت موسكو الدول الكبرى بالتقاعس عن تلبية مطالبها بتنفيذ اتفاق موازٍ لتيسير قواعد شحن صادراتها من الأغذية والأسمدة ما يعني مزيدا من الخلافات التي تعلن عن نفسها إلى جوار استمرار احتمال ووقوع أعمال غير مسؤولة في منطقة البحر الأسود في الفترة المقبلة بصرف النظر عن إمكانية لحل وسط في اتفاقية الحبوب.
ويزداد التوتر في ظل تزايد ظاهرة الألغام الموجودة على المسار البحري في الجزء الشمالي الغربي من البحر الأسود ما قد يعرض الملاحة الآمنة للسفن المدنية لخطر كبير بعد تأكيد المخابرات الروسية بأن الجيش الأوكراني قام من قبل بتلغيم المنافذ المؤدية إلى موانئ أوديسا وأوتشاكوف وتشرنومورسك ويوجني، وتم استخدام 420 لغما للحواجز، جرفت المياه معظمها لاحقا إلى عرض البحر، وخرجت بالتالي عن نطاق السيطرة، وإن تم في وقت لاحق ملاحظة بعض هذه الألغام البحرية بالقرب من سواحل تركيا ورومانيا، وقد قامت وزارة الدفاع التركية بإرسال فرق غوص من النخبة تحت الماء إلى منطقة ساحل مقاطعة إزمير التركية بعد اكتشاف لغم عائم، وهو ما يعني أن الظاهرة مستمرة، وقد تتزايد في ظل تأكيدات أوكرانية بأن روسيا لن تسيطر على البحر الأسود، وسيتعين عليها – وفقا للتصور الأوكراني - أن تتخوف من الاقتراب من شواطئ القرم بفعل تحركات القوات البحرية الأوكرانية في ظل استعدادها لبدء المرحلة الثانية من الهجوم المضاد.
والمعلوم أن سواحل بحر آزوف وشبه جزيرة القرم ما تزال تخضع لسيطرة القوات الروسية، فيما تحرص الدول الغربية والولايات المتحدة على التواجد في نطاقات البحر الأسود من خلال شركاء «الناتو» بلغاريا ورومانيا وتركيا، والتي تلتزم الولايات المتحدة، بحمايتها في مواجهة التحركات والمخاطر التي تمثلها روسيا والصين إضافة إلى إقرار الكونجرس مؤخرا تعزيز المشاركة الأميركية مع البحر الأسود من خلال قانون أمن البحر الأسود لعام 2023، والتوصية بإنشاء سرب من البحر الأسود، والمجموعة البحرية الدائمة التابعة لحلف «الناتو»، مع التوقع بأن أي تسوية ما بين روسيا وأوكرانيا على المدى الطويل ستعمل على الحد من تواجد القوات البحرية الروسية في البحر الأسود، وضمان عدم قدرة روسيا على إعادة تموضع أسطولها البحري في البحر الأسود لتهديد أي دولة على تطل على البحر، وكذلك تحديد أي مسار لتحرك صيني مناوئ يتوافق في محصلته مع الجانب الروسي في البحر الأسود.
وفي المجمل فإن البحر الأسود وفي كل الأحوال سيكون ساحة لمواجهات مستقبلية في ظل السؤال المطروح: هل يتم استخدام سلاح الغذاء ضد العقوبات الغربية؟ وهل فعلا لن يكون البحر الأسود تابعاً لحلف «الناتو»، وذلك بعد أن حث وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، الحلف على لعب دور أمني أكبر في المنطقة، حيث تطل كل من روسيا وأوكرانيا على البحر الأسود، وكذلك تركيا وبلغاريا ورومانيا الأعضاء في الحلف؟ أم نشهد سيناريوهات مفصلية جديدة؟
*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية