تغليف الاقتصاد بالسياسة
تَجتاح العالَمَ حالياً العديدُ من الحروب والصراعات والتغيرات، ومعظمُها يخفي أوجهَه الاقتصادية الحقيقيةَ الكامنةَ فيه، وذلك إلى جانب العوامل الجيوسياسية الظاهرة على السطح والتي تتناولها وتركز عليها وسائل الإعلام دون النظر في معظم الأوقات لجوهرها الحقيقي.ولنتناول على سبيل المثال حدثين بارزين حظيَاً باهتمام دولي كبير في الآونة الأخيرة، أولهما الانقلاب العسكري في النيجر التي نادراً ما تصدرت عناوين الأخبار، وثانيهما الصراع الدائر في المحيط المتجمد الشمالي، والذي يكتسب بدوره طابعاً اقتصادياً وتجارياً تتزايد أهميته مع التغيرات المناخية.
النيجر وأفريقيا بشكل عام تعيش تناقضاً كبيراً بين مواردها الوفيرة، وبالأخص من المعادن والزراعية، وبين مستويات المعيشة المتدنية فيها وانتشار الفقر بين سكانها.. وهي تناقضات مستمرة منذ مائة عام. فالنيجر، رغم امتلاكها العديدَ من المعادن المهمة، وبالأخص اليورانيوم والذهب، تُعد واحدةً من أفقر دول العالم، حيث تستحوذ الشركات الأجنبية على إنتاج البلاد من المعادن وتصديره.
ونظراً إلى حاجة البلدان الكبرى لهذه المعادن، فقد اشتد الصراع بينها، ونجمت عن ذلك صراعاتٌ داخلية بدعم من هذه الدولة الكبرى أو تلك، وبالأخص الدول المعتمدة بصورة متزايدة على المعادن الأفريقية. ففرنسا تعتمد بنسبة 35% على اليورانيوم المستورد من النيجر لتشغيل مفاعلاتها النووية التي تلبي 70% من احتياجات البلاد من الطاقة الكهربائية، حيث تعد النيجر رابع أكبر منتج لليورانيوم في العالم.
وبعد الانقلاب الأخير قرر المجلس العسكري وقف صادرات اليورانيوم والذهب إلى فرنسا والولايات المتحدة، معلناً أنه سيعمل على حماية الثروات الطبيعية والحصول على أسعار عادلة بتأييد من الصين وروسيا، علماً بأن الصين تعتبر أكبر مستثمر في الاقتصادات الأفريقية، وبالأخص في إنتاج المعادن وإقامة البنى التحتية التي توفر المتطلبات اللوجستية للنقل والتجارة.
وهو ما وفَّر للقارة خياراتٍ لم تكن متاحةً لها من قبل، ويمكن من خلالها تحقيق العديد من المكاسب والحصول على عائدات أكبر لصادراتها، وشروط أفضل لاستغلال ثرواتها بفعل التنافس بين القوى الكبرى التي تتنامى احتياجاتها لهذه الموارد، وبالأخص بعد التقدم التكنولوجي في مجالات عديدة، بما فيها تطوير مصادر الطاقة البديلة والتي أدت لتزايد الحاجة لبعض المعادن، كالليثيوم واليورانيوم والنحاس.
أما المحيط المتجمد الشمالي، فكانت ممراته المتجمدة مقتصرة في السابق على روسيا التي طورت كاسحات الجليد منذ العهد السوفييتي، وهي تملك الآن 13 كاسحة جليد، مقابل واحدة فقط للولايات المتحدة، في حين تتبادل الصين المعلومات الإلكترونية الخاصة بالمنطقة مع روسيا لأسباب تجارية. لقد أدى ذوبان الجليد إلى تزايد الأهمية التجارية للمنطقة، وأتاح إمكانية عبور السفن العادية في الممرات المائية التي يتوقع أن تتحول إلى معبر رئيسي للتجارة بين آسيا وأوربا والأميركيتين، مما سيؤثر دون شك على الطرق التجارية الأخرى ويخفض تكاليف النقل باختصار المسافات، مما يعني أن السيطرة على الممرات الجديدة سيوفر للدول الكثيرَ من المكاسب والنفوذ، حيث ستتفاوت هذه المكاسب التي ستعتمد على قدرة كل دولة على إقامة البُنى التحتية اللازمة لتطوير المرافق التجارية من موانئ وطرق وخدمات لوجيستية، حيث تملك روسيا (إلى جانب بعض الدول الاسكندنافية) أفضليات بحكم إطلالتها الكبيرة على مناطق القطب الشمالي.
وإضافة إلى هذه الأهمية التجارية الكبيرة التي ستحدِث تغيراً جوهرياً في طرق التجارة الدولية، فإن أراضي القطب الشمالي تحتوي على ثروات طبيعية هائلة، تشمل النفطَ والغاز، حيث تتنازع الدول الكبرى وتسعى لبسط سيطرتها على أكبر حجم ممكن من تلك الأراضي، مما يعني أن المنطقة ستشهد المزيد من التنافس المغلف سياسياً، إلا أن في مثل هذه الصراعات لا بد من البحث عن النوايا الحقيقية الخاصة بالاقتصاد وطرق التجارة والثروات الطبيعية.
*خبير ومستشار اقتصادي