عودة القومية الاقتصادية
ما بين قطبية أحادية وثنائية ومتعددة وعدة أقطاب في كتل متباعدة في عالم في حقيقته متغير الأقطاب، والقادم من بعيد وبقوة - ولربما إعادة مفهوم القطبية - يأتي تيار القطبية التقنية الإلكترونية الذي يسيطر على محاور حياة الفرد اليوم والمجتمعات، وهي مجرد مسألة وقت قبل أن يكون هذا التوجه هو السائد في العالم.
وصاحب التأثير الأكبر والأشمل على الحكومات والنظام العالمي بكل مكوناته بالمطلق في المستقبل غير البعيد، ولا سيما أن كل مؤشرات وإشارات النظام العالمي الرقمي باتت ظاهرة في الأفق، مما قد يجعل مشكلة التنافس على الهيمنة في السياسة العالمية تدور في بعد آخر، ودور في غاية الأهمية للشركات العملاقة العابرة للحدود والأفراد والمنظمات التي تتحدى الحكومات التقليدية، وستقل تباعاً أهمية توازن القوى السياسية بين الدول الكبرى بمفهومها المتعارف عليه.
ومن جانب آخر فإن القومية الاقتصادية ليست بأمر جديد وكانت في أوج نشاطها بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، والفترة التي تبعتها والتي شهدت ولادة النظام العالمي الذي كان مهيمناً آنذاك بين قطبين، وما تبع ذلك من هيمنة أحادية وما نشهده اليوم من تعددية قطبية، وفي هذا الصدد قد يفسر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كجزء من صعود أسهم القومية الاقتصادية لبريطانيا وإن كانت غير معلنة، وكذلك الحرب التجارية القائمة بين الولايات المتحدة والصين، والعلاقات التجارية الدولية المشحونة مدفوعة بشكل أساسي بمصالح الدول من أجل الحماية والميزة النسبية في النظام الاقتصادي الدولي، ومع ذلك فإن الحقيقة المتناقضة المتمثلة في أن الطفرة الأخيرة في المشاعر القومية الاقتصادية تجتاح أيضاً الدول الغنية التي تحتل مكانة رائدة في النظام الاقتصادي الدولي.
تتجاوز القومية الاقتصادية السياسة الاقتصادية للدول وتشمل الجهات الفاعلة مثل الشركات والخبراء والمؤسسات فوق الوطنية، ويمكن العثور عليها كقوة دافعة حتى وراء سياسات التجارة الليبرالية، وهي ممارسة سياسية واقتصادية تتطور مع عمليات العولمة، والنظرة الكلاسيكية إلى القومية الاقتصادية كشكل من أشكال الحماية نراها بارزة في شعارات رؤساء الدول الكبرى مثل «أميركا أولاً» أو «روسيا اولاً»...الخ.
وكلما زادت المشاعر القومية في مجتمع كانت القومية الاقتصادية موجهة نحو الآخر، ويكون هناك تطبيع أوسع للخطاب القومي الاقتصادي في جميع مجالات الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية، وذلك فيما يسمى بمجتمعات التجارة الحرة التي كانت حتى وقت قريب تنظر إلى القومية على أنها مجرد «مشكلة عالم ثالث» رافض لسيطرة الآخرين على اقتصاداته، دون القدرة على التدخل من قبله لتعزيز مصالحه ودعم اقتصاداته الوطنية بالمقام الأول، والإجراءات الحكومية التي تعزز المصلحة الوطنية من خلال حماية ومساعدة الشركات المحلية على حساب الشركات الأجنبية، وهو أمر مختلف عندما يتم تطبيقه من قبل القوى الكبرى والصاعدة بقوة، حيث يتحول الاقتصاد لسلاح لتحقيق التفوق النسبي ورفع مستوى التنافسية دون النظر إلى تداعياته على الدول والشعوب الأخرى، بينما في باقي دول العالم تعد القومية الاقتصادية سياسات غير دفاعية وغير تمييزية.
هل الانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة على سبيل المثال متسق تماماً مع الأسس الإيديولوجية! وترسيخ تدخل دولة ما كأداة مشروعة لتوجيه التنمية الاقتصادية إلى الأمام تحت دعاوى دعم قدرات الإنتاج المحلية! والتحول نحو القومية الاقتصادية على طول أبعادها السياسية التالية: السياسة التجارية والصناعية وسياسة المنافسة، والاستثمار الأجنبي المباشر، والهجرة، والمنظمات متعددة الأطراف، وسياسة الاقتصاد الكلي، أم أنها قومية اقتصادية غير مبررة؟
وبالرغم من ذلك يتم إيلاء القليل من الاهتمام للطرق التي يتم بها التعبير عن القومية من خلال المجال الاقتصادي، وقد تبدو القومية الاقتصادية مفهوماً عاطفياً للبعض، وبالمقابل عادت القومية الاقتصادية إلى الظهور اليوم بسبب التطورات الاجتماعية والسياسية على المدى الطويل والقصير، ولربما تغير تلك القومية خارطة القيادات السياسية في العالم وخاصة القارة الأوروبية والأفريقية، وما يتبع ذلك من أثر على العالم سياسياً واقتصادياً.
*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات.