الغرب مكرراً
لا يوجد عاقل يظنّ أننا لا نستطيع أن نميّز ما ينفعنا.. هكذا تحدث «خير الدين التونسي». كم تبدو هذه الجملة بديهية، لكنها مع ذلك تطلبت جهوداً كبيرة حتى تستقرّ لدى النخب العربية والإسلامية. منذ أكثر من (150) عاماً نشر المفكر الإصلاحي الكبير «خير الدين التونسي» - والذي تولى رئاسة الوزارة في تونس - كتابه الشهير «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، والذي تضمنت مقدمته الرائعة رؤية توافقية للإسلام والحداثة، ولقد حظيت هذه المقدمة باهتمام مؤرخي الفكر، حتى إن البعض يقارن بين مقدمة ابن خلدون في القرن الرابع عشر ومقدمة خير الدين في القرن التاسع عشر.
في عام 1834 كان المفكر المصري رفاعة الطهطاوي قد طرح رؤيته للإصلاح الشرقي على النمط الغربي، والتحديث الإسلامي الذي يأخذ من علوم واختراعات الغرب، ما يرمّم المسافة بينهما.
وقد مضى الطهطاوي في ذلك على خطى أستاذه «الشيخ حسن العطار» شيخ الأزهر الشريف وعميد الحداثة الإسلامية المعاصرة، وقد كان العطار هو من رشّح الطهطاوي لإمامة البعثة المصرية في باريس، وهو من طلب منه تسجيل كل شيء واطلاع أمّته على كل تفاصيل الحياة وأسباب التقدم في الغرب. وقد ازدهرت المدرسة الفكرية للشيخ العطار وكان الإمام محمد عبده من أبرز قادتها وأشهر نجومها.
بعد ثلث القرن من صدور كتاب الطهطاوي «تخليص الإبريز» صدر كتاب خير الدين التونسي «أقوم المسالك». لا تتوقف هذه المدرسة عند هذه الطليعة وحدها، بل تمتد إلى قامات رفيعة من «وحيد الدين خان» شرقًا إلى «مالك بن نبي» غرباً، ويتلخص مشروعها في قول خير الدين التونسي: «يجب أن ينتقل العالم الإسلامي من حالة التخلف الحضاري إلى عصر القوة والازدهار، وهذا لا يكون إلاّ باتباع منهج الغرب مع الحفاظ على الدين.. والدولة المدنيّة هى أساس استقامة الدين».
لم يكن النظر إلى نهضة الغرب وصعود قوته موضع دراسة لدى كبار مفكري الإسلام وحدهم، بل كان موضع دراسة لدى كل الشرق، في روسيا واليابان والصين والهند... كان «بطرس الأكبر» مؤسس روسيا الحديثة، و«الميجي» مؤسس اليابان الحديثة.. نموذجين لذلك الفكر، والذي مؤداه تلك المعادلة البسيطة: لا يمكن مواجهة الغرب إلاّ بالغرب، ولا حماية الشرق من الغرب إلاّ باتباع منهج الغرب، ولا منافسة الشرق للغرب إلاّ بالأخذ بما أخذ به الغرب. وفي قولة واحدة: أن يكون الشرق هو «الغرب - 2»، أو الغرب مكرر.
في الجوانب القيمية جاء هؤلاء المفكرون الكبار لكى يضعوا تعديلاتهم على المعادلة.. حيث يتم الأخذ بالعلم والتكنولوجيا، وبنظم الإدارة والقانون وأساليب الحكم، وبآلية عمل المدارس والجامعات ومؤسسات البحث، مع الحفاظ على العقيدة والأخلاق. كان يمكن للعالم الإسلامي أن يكون في موضع آخر، لولا أن ذلك السياق قطعه عدوان كبيران هما وجهان لعملة واحدة: الاستعمار والتطرف الديني.
لم يعُد الأمر الآن كما كان، فالصين كأميركا، والهند كأوروبا.. ويمكن الأخذ من الشرق كما يمكن الأخذ من الغرب. قبل 200 عام حسم مفكرونا هذا الأمر، ومع ذلك يحاول البيزنطيون العرب إبقاء الطريق الدائري مفتوحاً للحوار. لا يهم إذا ما كانت السفينة بيضاء أو صفراء.. المهم فقط أن نبدأ الآن في الإبحار.
*كاتب مصري