التمويل التونسي.. وتقاعس الاستثمار
مع قرب انتهاء تكليفه لمدة ست سنوات في فبراير المقبل، جدد حاكم البنك المركزي التونسي مروان العباسي تحذيراتِه من أن «مواصلة اقتصاد البلاد التعثر والسقوط في إشكالات عدة، قد تزيد من تعقيد أوضاعه المالية والاقتصادية والاجتماعية»، مشيراً إلى «تداعيات سلبية على المالية العامة، وبلوغ عجز موازنة العام المقبل 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي، مع ارتفاع الاحتياجات التمويلية إلى 8.3 مليار دولار»، مؤكداً أن «خلاص تونس يمر حتماً عبر اتخاذ إصلاحات جريئة وقوية وعاجلة، وإصدار سلسلة تشريعات تشمل مشروع قانون الصرف، ومشروع الإندماج المالي، ومشروعاً جديداً للاستثمار».
ويلتقي هذا التحذير مع تحذير من وكالة «فيتش» العالمية التي أكدت «أن التأخير في توصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة دعم بقيمة 1.9 مليار دولار، يجعل الحكومةَ تعتمد بشكل متزايد على المصارف المحلية لتمويل احتياجات الموازنة، مما يضعف سيولتها ويزيد من المخاطر على ملاءتها المالية».
وبدوره يرفض الصندوق الموافقةَ على برنامج «حزمة الدعم»، رغم مرور أكثر من سنة على تجميد المفاوضات، متمسكاً بإقرار سلسلة إصلاحات، أهمها: وقف الدعم الاستهلاكي، وتقليص كلفة أجور موظفي الدولة، ومعالجة العجز المالي المتزايد للشركات الحكومية، وتخفيض كلفة خدمة الدين العام.
لكن تونس ترفض شروط صندوق النقد، إذ وصفها الرئيس قيس سعيد بأنها «إملاءات تهدد السلمَ الاجتماعي والأمن الوطني»، بل شبَّهها بـ«عود ثقاب يشتعل إلى جانب مواد شديدة الانفجار»، قائلا إن«زيادة الضرائب على الأغنياء يمكن أن تكون بديلا عن الإصلاحات الاجتماعية الصعبة، ضمن المساعي الرامية إلى الحصول على حزمة إنقاذ مالي من الصندوق».
وفي تحليل للوضع المالي والاقتصادي لتونس، تؤكد تقاريرٌ عِدَّة أن تواتر الصدمات الداخلية والخارجية أثَّر سلباً منذ عام 2011، خاصة الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية، مروراً بتداعيات جائحة كورونا ووصولا إلى الحرب الروسية الأوكرانية، ثم الجفاف وشح الموارد المائية.. الأمر الذي أدى إلى تراجع قيمة السندات التونسية في الأسواق العالمية من 130% عام 2010 إلى 60% في يوليو الماضي.
وقد عكس هذا المؤشرُ مخاوفَ المستثمرين والممولين الأجانب وعدم وضوح الرؤية السياسية والاقتصادية. كما أدى إلى النمو السريع في حجم الدَّين العام الذي تضاعفت نسبته من40.7% من إجمالي الناتج المحلي إلى 80.2%. لذا تعرضت تونس إلى تخفيض تصنيفها السيادي 10 مرات إلى مستويات «مقلقة». ورغم ذلك، وضعت الحكومة موازنة العام المقبل، وهي تحمل خدمة دين بنحو 7.76 مليار دولار، ونفقات الدعم بنحو 3.55 مليار دولار، وكلفة أجور موظفي الدولة 7.4 مليار دولار.
ويبلغ مجموع العناصر الثلاثة التي يعترض عليها صندوق النقد 19.5 مليار دولار، من أصل مجموع الموازنة البالغة 24.48 مليار دولار. ولم يبق سوى القليل لمخصصات الاستثمار العام الذي يعتبر«قاطرة» الاستثمار الخاص، والمحرك لعجلة الاقتصاد الوطني.
ومع الأخذ بالاعتبار ضرورة تنفيذ الإصلاحات المالية، ما تزال الحكومة تراهن على نجاح استراتيجيتها للفترة 2023–2025، والتي تركز على استثمارات القطاع الخاص. ويهدف مخططها إلى إعادة التوازن الاقتصادي ومكافحة الفقر الذي يعانيه 20% من السكان البالغ عددهم نحو 12 مليون نسمة.
ويتوقع البرنامج استثمارات عامة بقيمة 12.3 مليار دولار، منها 8.7 مليار دولار من موازنة الدولة، و3.6 مليار دولار عبر الشركات العامة، على أن تتجه نسبة كبيرة من الاستثمارات نحو القطاع الصناعي الذي يفترض أن ترتفع نسبته من الناتج المحلي من 15% عام 2022 إلى 18% عام 2025، مع زيادة متوقعة في الصادرات من 12 إلى18 مليار دولار سنوياً.
*كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية