لا تبدو الصورة واضحة في تحديد مستقبل قطاع غزة، وكيف ستحكم بعد وقف إطلاق النار، والبدء في إجراء الترتيبات الأمنية والاستراتيجية التي لن تقتصر على السلطة الفلسطينية فقط مثلما طرح وزير الخارجية انطوني بيلنكن، ومدير المخابرات المركزية ويليام بيرنز، إضافة إلى كبار مسؤولي الإدارة الأميركية الذين يجرون حواراً استراتيجياً مستمراً بشأن الصيغة التي سيتم التعامل معها مع القطاع.

الأمر يتعلق بتساؤلات من بينها: هل ستكون للسلطة الفلسطينية أولويات سياسية أم أمنية؟ وكيف سيتم التعامل في ظل احتمالات تحول حركة «حماس» إلى مجموعات جيوب مسلحة في ما تبقى من القطاع، ورفض التسليم بوجودها كطرف في معادلة فلسطينية أشمل؟ هناك مسؤولية حقيقية أمام السلطة الفلسطينية على ما يجري، ويسعى بالفعل إلى تغيير الواقع الفلسطيني الراهن بكل تعقيداته إلى واقع جديد، مع إمكانية أن تدخل قوات دولية على الخط في غزة، والمرشح قوات مدربة من «الناتو» لبعض الوقت مع الإبقاء على قوات إسرائيلية في مناطق محددة، وفي إطار ضبط المشهد الأمني، أو على الأقل المشاركة في تفاصيله إلى حين التعامل مع الواقع الجديد.

والملاحظ أن ما سيجري في غزة قد يجري في مناطق أخرى في الإقليم، خاصة التعامل مع الوكلاء في الإقليم، والذين يتحركون من خلال توجيهات إيرانية مباشرة، حيث ستركز إسرائيل على ضرورة التعامل معهم بصورة، أو بأخرى، أو على الأقل إعادة ترتيب الخيارات والسيناريوهات سواء بالنسبة لـ«حزب الله»، أو التيار «الحوثي» مروراً بـ«الحشد الشعبي» والفصائل الفلسطينية في لبنان، وفي الجنوب السوري ما سيدفع إلى تعاملات جيدة، وبما يخفف الضغوطات على سياسات إسرائيل المستهدفة سلفاً من الفصائل الفلسطينية مثل حركتي «حماس» و«الجهاد» إضافة للتيار «الحوثي» من واقع استهداف إيلات، والتداخل في البحر الأحمر مما سيمثل تحدياً جديداً للدول المطلة على البحر، وليس فقط لإسرائيل، وبما سيرتب واقعاً أمنياً جديداً يمكن البناء عليه في المدى المتوسط.

الولايات المتحدة وبريطانيا، ودول النطاقات الأوروبية لن تترك إقليم الشرق الأوسط بحساباته المعقدة والمتفاعلة، بل بالعكس سيتم رسم استراتيجية تفاعلية جديدة ستؤكد على المصالح الأميركية الكبرى في مواجهة ما سيجري من تغييرات إقليمية كبيرة بالفعل، وستحتاج إلى استمرار العمل معاً سواء بالنسبة للدول الكبرى، والدول الشريكة، أو شركاء التحالفات السياسية والاستراتيجية، والتي تؤكد الولايات المتحدة باستمرار على دورهم المباشر في بناء استراتيجية تفاعلية تقوم على ترتيب المصالح والسياسات المباشرة التي يمكن أن تحقق للدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول «الناتو» مكاسبها، وهو ما يجري في إدارة أزمة غزة، وما يمكن أن تنتهي إليه من سيناريوهات جديدة تتعلق باستمرار إدارة الصراع العربي- الإسرائيلي بأكمله إلى حين الاتجاه إلى استراتيجية الحسم الكبرى التي تحتاج إلى توافقات دولية، وليست إقليمية فقط مع مراعاة ما طرأ بعد المواجهات الأخيرة، التي لم تنته بعد خاصة أن مسألة الدفاع عن أمن إسرائيل مرتبط بأشكال كبرى من التفاعلات الحقيقية في الإقليم، والتي تسعى القوي الغربية لتأكيدها في إطار مواجهات مستحدثة قد تغير من وقائع ما يجري من تطورات استراتيجية تدريجية.

سيتأهب الشرق الأوسط بالفعل إلى تغيير محتمل، ومتوقع في ظل التعامل مع مهددات الإقليم، وتحدياته الكبيرة، والتي يمكن أن تعلن عن نفسها في المدى المنظور، خاصة في خضم ما يجري من تطورات سياسية واستراتيجية وأمنية.

ويبدو أن القوى الرئيسية في العالم ستتحرك انطلاقاً من معطيات راسخة قادرة على إعادة صياغة مصالحها الكبيرة في الشرق الأوسط وخارجه، والتي ستترجمها القوة العسكرية، التي باتت وسيلة من أهم وسائل التعامل المباشر في فرض المصالح العليا للدول، وهو ما جرى في أزمة أوكرانيا وغزة، وتكرر بصورة لاحقة في التعامل الاستراتيجي في مناطق أخرى.

والمؤكد أن ما يجري في حسم ملف غزة سيكون مرشحاً للتكرار في أزمات أخرى في الإقليم إذا تم تهديد مصالح الدول الكبيرة، والتي لا يمكن أن تصمت جراء ما سيحدث من تطورات خاصة، وأن انتهاء أزمة غزة - في ظل أي سيناريو متوقع في المديين القصير والمتوسط الأجل - سيرتبط بمحاولات إعادة تقسيم مناطق نفوذ جديدة في الإقليم، أو المساس بوضعه سواء بالنسبة لما يجري في الأراضي الفلسطينية، ومناطق أخرى في ظل مقاربات مفتوحة، وسيناريوهات عدة. عودة استخدام وتوظيف القوة العسكرية لن يحل الأزمة الهيكلية الخاصة بالصراع العربي الإسرائيلي على سبيل المثال، بل ستؤدي إلى مزيد من المواجهات المباشرة والخطيرة، وربما حرب شاملة في الإقليم بل واتساع رقعة المواجهات إن لم يكن اليوم فغداً.

إسرائيل - إنْ مضتْ - ومن ورائها الولايات المتحدة في مسارها التصعيدي في التعامل، ورفض كل الأصوات الرشيدة الداعية للتهدئة، فإن كل السيناريوهات المحتملة ستمضي في اتجاهات متعددة تركز على دفع الإقليم لحافة الهاوية، وعودة الاستقطاب الإقليمي والدولي مجدداً بل، وتعرض مصالح الولايات المتحدة للضرر.

*أكاديمي متخصص في الشؤون الاستراتيجية.