في زمن ثورة تكنولوجيا المعلومات، لم يعد هناك مكان ولا معنى أساساً لطبول الحرب. كانت تلك الطبول يقرعها حاملوها في العصور الغابرة القديمة جداً في مقدمة الجيوش إعلاناً للحرب والهجوم وبهدف تحفيز الجيوش ورفع روحها المعنوية.
وجودهم منطقي في عصر قمة التكنولوجيا فيه كانت عربات خيول بعجلات كبيرة ومشاة بالآلاف يلقون مصيرهم من أجل أمجاد القائد الكبير. أما اليوم، أي في عصر العولمة الحالي، فالحروب لها شكل مختلف، وإن بقيت نهاياتها دموية ومأساوية في جميع الحالات والعصور.. فالصواريخ الموجهة والذكية والطائرات المسيرة والملغومة، قادرة خلال دقائق على إبادة كمية من البشر كانت إبادتهم تتطلب كتيبة من المشاة في الجيوش القديمة.
لذا، حين يقولون إن الحرب على الأبواب في الشرق الأوسط، فإن عبارتهم هذه خالية من المنطق. وذلك ببساطة لأن الحرب قد بدأت فعلياً، وتحديد خط بدايتها خاضع للجدل والنقاش، وهل هي حرب الجبهات المفتوحة في كل مكان في الإقليم أم الحرب المحددة مكانياً وزمانياً؟
في ظل ثورة تكنولوجيا المعلومات والثورة التقنية وعصر النانو وعالم السايبر والأمن السيبراني.. أي أهم التغيرات التي بدّلت وجه العالم، فإن الحروب لا طبول تسبقها، ولا ضجيج قذائف، ولا صوت رصاص يميزها.. بل لعلها أقرب إلى انفجار صامت لا يكاد يتجاوز صوته حدود المكان المستهدف، انفجار يبدأ الحرب أو ينهيها!
لقد صارت الحرب في وقتنا الحالي مهماتٌ مجزأةٌ، كل مهمة فيها انتصار وهزيمة، والفوز النهائي بعدد النقاط، وقد يكون بالضربة القاضية الواحدة. التحضير لتلك الحروب عملية معقدة، ويتطلب ذكاءً في معالجة المعلومات التي يصبح الحصول عليها عمليةً شاقة في ظل عالم من المعلومات المضللة.
البحث عن معلومة صحيحة أصبح يشبه فعلياً ما قالوه قديماً حول صعوبة البحث عن إبرة صغيرة في كومة قش بحجم اصطبل. وتلك الحروب الجديدة لها أهدافها السياسية، أهداف سياسية يلتقي عليها سراً فريق من المتخاصمين أنفسهم للوصول إلى تسويات سياسية تنهي الأزمات كما يفترضون. لذلك فالتسويات مهمة وضرورية في عالم يعيد تشكيل نفسه، وفي إطار علاقات دولية تحاول التكيفَ مع معطيات هذا العالم الجديد، وتتماهى مع مصالح ضخمة هدفها أن تتحقق وتحقق الوفرة والثروة وأسواق جديدة لها قواعد عمل جديدة. كل ما سبق ذكره أعلاه، يعني أن التطرف ومَن يحملون أفكار الماضي ومفاهيم عالَم الأمس يجب أن يغيبوا عن عالم اليوم ومراكز صناعة القرار فيه.. والحروب الجديدة هي تسويات مسبقة لتسويات نهائية لاحقة، لترتيب عالم من العلاقات الدولية والإقليمية الجديدة التي لا تحتمل أبجديات ماضوية. وفي الوقت الحالي، ووسط كل هذه الفوضى التي نشهدها، تتوالى فصول إرهاصات ميلاد عالم جديد مختلف يبحث عن تسوياته وعلاقاته ومفرداته الجديدة.
والصراعات بين القوى كلها ليست أكثر من تصفيات نهائية سيخرج بالضرورة منها من لا يستطيع التكيف مع كل هذا الجديد الذي يفرض نفسَه بقوة المعرفة والتكنولوجيا والرؤية التي لا تستطيع حمل أي إرث قديم. الأسلحة خطيرة وفتاكة، لكنها دقيقة ومؤثرة، والحرب ليست على الأبواب ولا على وشك أن تقع، بل نحن فيها على مستوى شمولي، وهي ليست نيران وقذائف وحسب، بل أيضاً اقتصادية وسياسية واجتماعية وتعليمية.
*كاتب أردني مقيم في بلجيكا